هي مدينتي وأنا ابنها بالتبني، لأنني قدمت من ريف يقع بين محافظتين في اليمن هما تعز وإب، وكلتاهما وسط اليمن، لكن تعز كانت الأقرب لي ولأبناء قريتي. فيها تعلمنا وكبرنا وعرفنا المدنية والحداثة في نهاية الثمانينيات، وقد كانت مدينة القنصليات ودور السينما والمكتبات والأحزاب والكيانات الثقافية والسياسية والشعراء والفنانين والمسرحيين، وكل ماله علاقة بذلك.
من أجل كل ذلك أسموها “الحالمة”.
من حسن حظي أنني تمكنت أن أجمع بين المتناقضات في آن، في مدينة المتناقضات الزاخرة بكل ما هو ثري وغريب ومحرم عند بعض الناس في ذلك الوقت.
تعز لم تكن مدينة ككل المدن اليمنية، فقد كانت أكثر أناقة وشبابا وحيوية، فأنت تولد فيها أو تعيش طفولتك ومراهقتك وشبابك بين المسجد والسينما والمسرح والصحيفة والإذاعة والنادي واتحاد الأدباء والمركز الثقافي والنوادي الثقافية والرياضية والمهرجانات الغنائية، سواء منها الفنية المعروفة أو المهرجانات الإسلامية في ذلك الوقت وما كان أكثرها.
المدينة الآسرة الواقعة بين جبل اسمه “صبر” شاهق وأخضر وهو الأعلى في الجزيرة العربية، وواد فسيح له من اسمه نصيب وهو “وادي الضباب” حيث الريف اليمني الخلاب والينابيع الرقراقة، ويقصدهما الناس في كل حين من تعز ومن المحافظات الأخرى. ومثل وادي الضباب وجبل الصبر، كانت تعز آسرة في الثقافة والفن والسياسة والمسرح وريادة الأعمال، فمنها أيضا بدأت أكبر شركة تجارية وصناعية في اليمن حتى الآن.
بين مسرح المركز الثقافي في منطقة صالة ومسرح منتزه التعاون في حارة المسبح تشكلت شخصيتي وشخصية الآلاف، فالمهرجانات والفعاليات والمنتديات التي كنا نشارك فيها تصقل الشخصية بل تقدمها، وما كان أكثرها في ذلك الوقت.
ما زلت أتذكر مسرح المركز الثقافي بتعز وعشرات المسرحيات والأمسيات اليمنية والعربية التي كانت تحييها الفرق الثقافية العربية بتعز في الرقص والغناء والفلكلور وغير ذلك.
كان الواقع مختلفا تماما، فزمن التسعينيات وما قبله وما بعده يجعلك تقع في حب المدينة، وهي تغذيك بكل ما هو طازج ومفيد ثقافيا وفنيا، وتنمي فكرك وحواسك، أما الآن فقد أصبحت المدن هجينا بين عمارات إسمنتية شاهقة ومحال تجارية، وزاد على ذلك أن الناس لم يعودوا قادرين على العيش وسط الحقيقة بعد أن سرقت الهواتف الذكية أعمارهم.
أما المدن التي وجدت نفسها ضحية الحروب، وتعز نموذجا لمثل هذه المدن، فإن ما بقي منها الآن من روح لا يكفي لمساءات الشعر والفن والثقافة والغناء والطرب، رغم المحاولات الدؤوبة. فالمدينة التي قاومت الحرب خلال السنوات الماضية تحاول الآن مداواة جراحها وما خلفته الحرب من عته اجتماعي وسياسي عميق.
أغلقت صحيفة الجمهورية وملحقها الثقافي الشهير، وأصبح اتحاد الأدباء الذي كنت أرتاده في التسعينيات مجرد ماض لا ذكر له، ويحاول المركز الثقافي استعادة بعض أمجاده بعد أن أصبحت منطقة صالة والجحملية مجرد أبنية مدمرة، أما مسرح التعاون أو المنتزه فيستضيف الفعاليات السياسية والرسمية.
أما أصدقائي الصحفيين والشعراء والفنانين والمسرحيين والمخرجين، فبين من اختار الرحيل أو بقي يقاوم التدهور بكل حيلة تمنحها له الحياة، وما أقل الحيل التي تجود بها الحياة هذه الأيام.
هنا تتخلق مدينة جديدة بأخلاق الحرب، رغم أنها لا تريد ولا تحب، لكن سنوات الحرب لا ترحم.
تذهب المدن بكل أحلامها وجمالها ويبقى منها ما يمكن أن نتذكره فقط للكتابة أو المسامرة والحديث مع أبنائنا حوله إذا سألوا مرة.
أخاف على كل شيء جميل في المدينة أن يطويه النسيان: الأسواق والمطاعم والشوارع والمكتبات والأصدقاء، وعندما أعود بعد غياب قد أكون غريبا في مدينتي المفقودة.
أسأل عن أحمد جبارة، وهشام النعمان، وآدم سيف، ونبيل الحكيمي، وعز الدين سعيد، وفكري قاسم، وسمير اليوسفي، وشكري الحذيفي، وبشرى المقطري، وسلوى القدسي، وفتحي أبو النصر، وشوقي اليوسفي، وعبد الرحيم قحطان، وعبد الحميد الحسامي، وعبد الفتاح سلطان، وعبد المنعم الشيباني، وعبد الغني المقرمي، ورمزي الحكيمي، وعادل العامري، ونوفل البعداني، ومروان المخلافي، وعامر البوصي.
وألمح في الذاكرة أسماء أخرى كانت عبق المدينة التي أنجبت عبد الله عبد الوهاب نعمان الفضول، ومحمد الفتيح، وهاشم علي، وأيوب طارش، وعبد الباسط عبسي، وكانت ملتقى اليمنيين جميعا.
إن كان من شيء بقي قويا على حاله ولم تؤثر فيه حرب السنوات التي خلت فهو صوت الفنان أيوب طارش الذي لم يستسلم لعوامل الزمن وتبدلاته، وشعر صديقه الفضول إذ ينبعث من تعز قويا فتيا كما لو أنه ولد للتو لحنا وكلمات وغناء، يصدر لليمن وللمشردين من أبنائها حول العالم الأمل والوطن والحب بروائعهما الخالدة التي لا تنسى.
عندما تموت المدن وتموت أحلامنا يبقى الفن والكلمة بعبقهما يشيدان في الذاكرة مدنا وأماكن ولو كانت صدئة وذابلة، فإنها تقوم وتغني من جديد ذات اللحن وذات الصوت وذات الكلمة، وتلك هي تعز وإن أنكرت نفسها.
نقلاً عن شبكة “الجزيرة”