يمانياً كنت أو يونانياً، فإنك إن اتخذت الرواية قولاً لرصد أوضاع الإنسان وتقلبات الحياة، لا محيد عن المرور إلى ذلك في فسحة بين حافة الهاوية وبعد الانهيار.
فالرواية لتُكتَب تحتاج إلى الأنقاض، أن يُلمُّ جسدُها، تصاغ فصولُها من الشظايا، من قطع الخراب والنهاية، كي تأتي في إهاب وبإيقاع المأساة.
هي ليست تعبيرَ الفرح ولا فنّ المرح وإن تطلبت اللعب والإمتاع. هذا ما فهمه أحمد زين مبكراًـ وهل كان له خيار؟!ـ إذ كانت عدسته وعينُه الساردة ترتعان في أبهاء الحطام والاقتلاع وانكسار الآلام في بلاده اليمن منذ روايته الأولى “تصحيح وضع” (2004)، مروراً ب”حرب تحت الجلد” (2010)، وانتهاءً ب”فاكهة الغربان” (2020- منشورات المتوسط)، والذي أعتبره مع “قهوة أمريكية” (2007) من أعماله الوازنة فنًا وامتلاءً بالدلالة والإيحاء.
تشابك التفاصيل
غرضنا في هذه الورقة، الوقوق على الرواية الجديدة (اختيرت قبل ايّام ضمن قائمة بوكر الطويلة) بحسب ما يتيحه المجال، نظراً لتعدد شخصياتها، وتشابك مفاصلها، وتداخل زويا النظر (مواقع السرد والسارد)، ضمن العالم/ العوالم والفضاءات التي تعمل فيها الشخصيات وتنمو الأحداث وتنثال الذكريات…
كلّه شتات، وعلى الروائي أن يجمعه ليركِّب من جسد اليمن السعيد الذي كان، بالأحرى يعيد تركيب مرحلة تتكئ على تاريخ يعود إلى نهاية الستينات وما تلاه من تغييرات على مستويات عدة. منه تقتطِع الروايةُ حقبة يمكن التكهّن بامتدادها من نهاية السبعينات إلى منتصف الثمانينات.
منذ الإطاحة بحكم الرئيس سالم الربيع (سالمين) والسلطة التي جاءت بعده باسم (ثورة تصحيحية للحزب الاشتراكي والجبهة الشعبية القومية)، يرصدها الروائي من زاوية أوضاع شخصيات متصارعة على السلطة وقوى داخل العائلة السياسية الواحدة، هذه التي جاءت لإنقاذ البلاد من القبلية والإقطاع وإذ بها تغرقها في شرك شيوعية شمولية كاسحة وتدخلها دوامة العنف والمؤامرة والانقلابات.
واقع وتخييل
داخل منظومة سياسية إيديولوجية في حقبة مأزومة من تاريخ اليمن، تولد القصة، بأطرافُها ثلاثة. والمفارقة أن بطولتها الحقيقة، كما ذكرت، هو الخراب، محصلة تنسجم مع واقع حقيقي، وتتألف من تخييل ضمن إمكان واقع، يجتمعان في القصة الآتية: ما جرى ل”نورا”، سليلة أسرة يمانية عريقة من عهد ما قبل الاستقلال والثورة، تحولت في عهد الثوة إلى راقصة بالي ضمن فرقة قومية، وحوّلها النظام الاشتراكي إلى موديل دعائي له في جولات خارجية.
من قلب النظام أُغرمت بكبير من قادته باسم حركي (جياب)، بادلها الغرام فعاشت معه قصة حب عميقة ورافقته في جولاته إلى عواصم كبرى.
ويحدث أن يختفي القيادي المغرم في غمرة احتراب ومخططات الانقلابات المستمرة بين أبناء الثورة من أجل ما يعتبرونه مجد الجمهورية اليمنية الديموقراطية الشعبية، لذلك تسقط نورا، مباشرة بعد سقوطه (غيابه)، بحيث تتعرض لهجوم يعطب قدميها (أداتها للرقص)، مثلما أعطبت الثورة غرامها.
الطرف الثالث الوسيط السارد الثاني، العامل في مكتب القيادي المختفي، تطلبه نورا ليكتب مذكراتها وتروي له قصتها نُتفا وأشتاتًا، وقد باتت مقعدة في بيتها الموصد.
يتردد عليها دائمًا، وبين حركة ذهابه وإيابه تتكوّن الرواية بين مغلق وأسرار العالم الشخصي للعاشقة وحبيبها، ومنفتح العالم الخارجي للثورة الاشتراكية ومكاتبها ومناضليها أبناء البلد والعرب الملتحقين بالثورة أو زعمها.
نشاهد ونجوب في مدينة عدن وأطرافها، فتُبنى فضاءً للرواية المركزي. نقرأ في خارطتها الحياة اليومية للناس وتشوّهات ما لحقها جرّاء سياسة وصراعات الإخوة الثوار الأعداء التي ستنتهي في سياق الواقع والرواية معاً إلى إفلاس النموذج وانهيار النظام وتفرق شمل الحالمين في عدن بجنة عدن للثوار العرب، ونهاية مأساوية لنورا والجميع، ثوارا وأتباعا وأنصاف قبليين أنصاف حضريين، نرجسيين ومغامرين لا حافظوا على ماض ولا بنوا حاضراً.
الأيديولوجيات والشخصيات
الإيديولوجيا تستبطن الرواية من البداية إلى النهاية، برؤية للعالم من موقع فئة نقيض لما حدث، لذلك تنعت سواها ب”الغربان”، حقًّا ومجازًا، ممّن تكالبوا على “فاكهة” عدن أو الثورة أو حلم التغيير أو الحياة نفسها وعاثوا فسادًا تحولت ثورتهم إلى دودة تنخر الوجود.
ليست هذه هي الرواية، وإنما خطاطتها الحكائية، على القارئ أن يجِدّ في ملاحقتها. فمحكياتُها كثيرة، وشخصياتُها واقعية ورمزية، وأمثلتُها أيقونية، مليئة بالمغامرات مقتبسَة من أحداث حقيقية، من تاريخ اليمن الممزق قبيل انتقاله إلى ما هو عليه في حاضره المدمر؛ وفي الآن، مثالٌ أشمل لعالم عربي منهار خبَت فيه أحلام وسقطت بطولات وتفسّخت قيم وآل إلى بوار. فماذا بقي بعد الآن؟ هذا هو السؤال الذي يعني بعد تلك الدلالات ناقد الرواية ويقرأه كالتالي:
بقي العرض السردي للقصة والصياغة الفنية للشخصيات والمواقف، والطريقة الخصوصية لتشخيص الرمزي، الموضوع والمعنى، إذ محكّ الرواية التي تتناول القضايا السجالية والفائرة هو كيف كتابتها، هل تكبلها الواقعية الفجة وصخب الشعارات أم تكتسب الروائية.
رهان ملحاح لدى أحمد زين، باتخاذه شخصية نورا بؤرة الحكي وملتقى خيوط الحبكة، وبالتضعيف التاريخي والوشيجة بين العاطفي والموضوعي لتصبح إشكالية ومتعددة الأصوات.
كذلك، صنعه لشخصياته ضمن بنية الثنائيات في جدل منتظم، كل واحدة متعالقة بالثانية: نورا بالعشيق جياب ـ جياب من نورا، هذه بكاتب مذكراتها صلاحـ هذا الأخير بها هي والخارج…
وباستخدام لعبة الطي، تضمين قصة داخل قصة، يقع فيها تعدد مواقع السرد والسارد، من شخصية لأخرى، ومن محفل إلى نقيضه، ما يصنع شبكة متاهة يكثفها وصف للمكان.
مثلاً، واقعي وغرائبي، وخطاب مباشر ومونولوغ داخلي، ما يربك بروتوكول القراءة فيحتاج القارئ إلى التخلي عن مرجعية التلقي الموروثة وتأسيس أخرى للتو، يلفى نفسه أمام روائية توجد بما هي تعمل.
هي تجريبية خلاقة تنهض على أعمدة بنية الثنائيات والانشطار والتشظي، وموضوع القصة فيها بعد ومن وراء كل المحكيات الذاتية والتاريخية والسياسية الإيديولوجية لأفراد وبلاد، هو تيمة العطب، حاضرة في محافل الرواية جميعها وممثليها كبارًا وصغارًا، تُسمع وتُرى وتُحسّ.
كأننا نستشعرها تلفّظاً وحركةً وبوْحًا، كما نقرأها سيمائيًا وظلالًا… فاللغة ذاتُها معطوبة لا تقول إلا النصف، مبهمة. النقصان كمالها والمأساوية (الخراب) نشيدها العميق إيقاعا من إلى النهاية.
هذه هي الرواية الحديثة، لها جمالية النقصان والإخفاء وتعدد قابلية التأويل، المنشطة ثلاثتها لفاعلية التلقي. إن “فاكهة الغربان” قائمة بعد هذا على بلاغة الطباق، لذلك لا ينسجم موضوعها وشخصياتها وحبكتها مع نظام الوحدات الثلاث الذي يناسب واقعًا مستقرًا ويبنى. بينما أحمد زين- وهو من قلائل جدًا- يكتب بالحطام وفوقه، من كل النواحي، وهذا إبدال ذو بال للرواية العربية خارج المنافسات الظرفية ومن أجل روائية منفتحة الآفاق.
(نقلاً عن جريدة النهار العربي للكاتب المغربي أحمد المديني )