ليس لمجرد وصفه بالوطني فقط يكون جيشاً وطنياً ياعزيزي.
ليس لمجرد وصفه بالوطني فقط يكون جيشاً وطنياً ياعزيزي.
هناك أزمة بنيوية عميقة في كيانية الجيش عمرها أجيال.. وما الحالة التي وصلنا لها إلا بسببها بشكل أو بآخر.
وحتى وإن كنا ننحاز للقوات الموالية لشرعية هادي إلا أن الجيش الوطني هو حلم مستقبلي لن يتحقق إلا بعد انتهاء الحرب واستئناف مسار الدولة والسياسة وانجاز كل الصيغ “الاجماعية” وطنياً والتي تعيد تصحيح وغربلة كيان الجيش حتى يكون بعقيدة وطنية ومهنية كما ينبغي.
أما الآن فالوطنية ليست تلك الصكوك التي يوزعها كل طرف على نفسه بمنتهى السهولة، أو ذلك الشطط الذي لا يستريح لدى كل الأطراف المتصارعة.
ينطبق هذا الكلام على القوات الموالية لصالح والحوثي بالتأكيد أو ما يسمى بـ”شرعية الامر الواقع” حتى اللحظة فهي تصنف نفسها كوطنية بالمقابل.
والمعنى أن الأمر اأثر تعقيداً من مجرد امنيات إذ ليس ما يعجبنا هو الذي يجب أن يتم فرضه كمعيار أوحد في التصنيف دون أخذ عدة اعتبارات تجانسية مهمة تضع جميع اليمنيين في البال، وتجبر ضررهم بلا استثناء لاحقاً خصوصاً وأن الصراع اليوم يحتد أكثر وتتوسع بؤره حتى تبدو معه بوادر السلام منعدمة في ظل تفشي الكراهيات وآثامها.
إلا أن التصنيفات الجاهزة والمغلقة كارثية كما أن الإقصاء اشد كارثية.
ألا ترى كيف أدى حل ما يسمى بجيش صدام في العراق إلى انتقامات وتدهورات بعد ما وجد قرابة 400 ألف أنفسهم فجأة في العراء بدلاً من إعادة تصحيح وضعه وادماجه على اسس وطنية رغم مادرج عليه النظام في استخدامه كمتاع شخصي.
ثم ألا ترى “ما ولده اقصاء الجيش المحسوب على الجنوب بعد حرب 94 وفق مزاج المنتصر” بينما “كان يفترض إعادة الكوادر المدنية والعسكرية والأمنية إلى وظائفها وفقاً للقانون وشروط الخدمة وتأكيداً لإبعاد الوظيفة العامة عن الاستخدام في الصراع السياسي خلال المرحلة الجديدة وعدم توظيفها لصالح أي طرف كما لوضع حد للسلوك الأخرق المتمثل بالاستمرار في التنكيل على ذلك النحو دون أدنى استيعاب للتبعات والحساسيات الجمة، إضافة إلى تعويض الممتلكات التي تضررت وصودرت ووضع خطط عملية لإعادة بناء ما دمرته الحرب” وهي الأمور التي لم تتم للأسف بحيث تم “تشجيع مظاهر التمييز بين المواطنين على أساس دورهم أو موقفهم من الأحداث والتطورات في الماضي وحجب حقوق واضحة عن أشخاص معينين أو عن أقاربهم لأنه كان لهم موقف معاكسأاو أنهم يعارضون بشكل سلمي”.
إن هذا النوع من الممارسات ينتمي كلية الى “شمولية مرحلة ماقبل التعامل مع الناس على أساس المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات وتحريم أي اجراءات استثنائية ومنع أو منح اية حقوق أو امتيازات لأسباب سياسية وولائية خلافاً للقانون”.
والحال أن الآثار التي نعيشها اليوم مازالت ممتدة منذ مرحلتي ما بعد سبتمبر واكتوبر إلى أن جاءت ثورة 2011 التي حاولت تصحيح الخطأ في أن “الثورة أي ثورة يجب أن تكون ذات تطلعات إنسانية وأخلاقية تهدف قبل كل شيء إلى ازالة الظلم والاستعلاء وتعميم العدالة على الجميع بمن فيهم خصوم الثورة ذاتها لأن ذلك يدخل في صميم تطلعاتها ومراميها البعيدة”.
أما القوة ياعزيزي فـ”ليست هي وحدها الحل لأن انتصارها لا يعني عدم الحاجة بعد ذلك للحوار مع من لم يعد يمتلك القوة”، وما “أسوأ تلك الإغراءات والأوهام التي يخلفها الاستخدام الناجح للقوة”.
ولتتخيل بعد خمس أو عشر سنوات من الآن مثلاً، كيف سيكون حال البلاد في ظل عدم التوصل إلى صيغة اجماعية لمصالحة وطنية وسياسية تاريخية -على الأقل من أجل الاجيال الجديدة التي تزخر بالأحلام والبراءة والأمل- “تلتزم فيها جميع القوى بالسياق السياسي واحترام تطبيق المبادئ الديمقراطية والتصدي لأي محاولة تستهدف العودة إلى الاستبداد والقهر ومعارضة كل الممارسات التي تنتقص من الحياة الديمقراطية “أو تفاقم من تدهور البلاد واكتساح منطق الحرب وويلاتها في ظل انتشار أنماط الميليشيات المسلحة والارهابية على السواء والدفع نحو تغول المأساة وعدم عودة الوعي بالدولة.
ثم إن الرشد والمسؤولية يقتضيان ذلك بالضرورة ومن أجل تأسيس مجتمع جديد يكون الحق فيه فوق القوة وتنظيم العلاقة بين أفراده على أساس المواطنة والتساوي في كافة الحقوق والواجبات وإشاعة روح التسامح والاخاء واحترام حقوق الانسان وحرياته الاصيلة المكفولة.
و”لا يحتاج الأمر إلا إلى إرادة سياسية شجاعة وواقعية لإتخاذ هذا النوع من القرارات الصعبة التي سيرحب بها الرأي العام المحلي والدولي”.
اما ابقاء باب التخوين والاضطراب على مصراعيه فإنه سيجلب أزمات غير متوقعه ولا طاقة لليمن بتحملها فيما لن يؤدي هذا الباب المشين إلى الاستقرار المنشود والذي يفترض أن يكون هو الغاية من كل ما جرى وما يحدث.
كما أن “المصالحة ليست بديلاً للديمقراطية كما يعتقد البعض ولا تهدف إلى اعادة اقتسام السلطة كغنيمة حرب أو الانتقاص من صلاحيات المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية وإنما ترمي إلى تمهيد الأرض لديمقراطية حقيقية في قادم الأيام وتوفير الشروط المناسبة لتفعيل دور المؤسسات والسلطات الشرعية المختلفة”، بعد أن تضاءل دورها وأعاقتها مراكز القوى حتى افرغتها من الداخل وعطلت مضمونها كما فعلت ميليشيات الانقلاب والقاعدة اليوم.
قس على ماسبق أن غالبية البسطاء من الشعب يحبون الحياة ويحلمون بأمان وخبز ولم تصبهم لوثة الطغيان والاستعلاء وأزلامهما بعد رغم كل شيء، غير أنهم يهربون من الحوثي فتقصفهم السعودية ويهربون من السعودية فيقصفهم الحوثي، ويهربون من الاثنين فتنالهم القاعدة أو يتعرضون للهتك وفقاً لهوياتهم من قبل الميليشيا المناطقية المأزومة التي باسم المقاومة الوطنية زوراً.
فحيث تراهم السعودية مجردأاتباع لإيران أو صالح يراهم الحوثي عبارة عن “دواعش” أو مع هادي ويراهم الحراك أعداء.. وهكذا.
بينما مقابر الموت المجاني والتشرد القاسي تتناهشهم بكل صلف ليصبحوا أرقاماً من مخلفات الحرب.. الحرب المعتوهة التي لا تأبه لحصيلتها من الأبرياء ولا تريد التوقف.. الحرب التي جعلت كل طرف فيها لا يرى إلا جرائم الطرف الآخر منزهاً جماعته.
هل تفهمني ؟
لا أظن.
لكن إذا تركنا الحرب تمضي إلى خيارتها الكارثية سيندم الجميع على تفويت استعادة العملية السياسية –وبالذات الحوثيين- بدلاً من تفكك المجتمع كحصيلة للحرب وانزلاقه النهائي إلى صراعات وانقسامات اجتماعية على أسس مذهبية أو مناطقية أو جهوية..
فالحرب القائمة والتدميرية الداخلية والخارجية لابد من ايقافها يوماً ولكن مانفع البكاء على اللبن المسكوب بعد كل ما خلفته، وبالذات بدون اتخاذ كافة الاجراءات والالتزامات والمتطلبات الهامة لتجاوز مظاهرها في الوجدان اليمني مفضلين عدم منع انهيار الدولة و استمرار العزلة الاقليمية والدولية المفروضة على البلاد وتحويل اليمن إلى ساحة للفوضى والتمزق والإرهاب والحروب الأهلية أو كمسرح لتصفية حسابات إقليمية ودولية، الأمر الذي يكشف عن رعونة في عدم ادراك كل من يتشدقون بالوطنية للمخاطر الكبرى المحدقة بحاضر ومستقبل الوطن والشعب.
ولعل الانحطاط المروع يتجلى في حالة الاستخفاف بالتوافق من أجل ترتيبات وتدابير سياسية وأمنية صارمة – خلال الفترة الانتقالية – وبإشراف ورعاية اقليمية وأممية في سياق آلية تنفيذية فاعلة ومزمنة دون نزوع أي من الأطراف إلى اتخاذ إجراءات انفرادية فيما يتعلق بالشأن الوطني العام خلال المرحلة وإعادة النظر بكثير من المواضيع ذات الخلاف بعقلانية ومرونة بدلاً من التبجح بالمواقف المتصلبة والمخادعة التي قادتنا كمجتمع وكدولة إلى هذا المأزق الذي ليس له مثيل.
وبالتأكيد غداً ستدرك القوى التي يروقها حسم خياراتها بالحرب والقوة مغبة تصميمها على السير في طريق الغلبة والاستقواء ومعنى الجحيم الشاسع الذي تؤول إليه اليمن جراء تطييفها للصراع وحرفها لطبيعته بما هو صراع سياسي اجتماعي.
كما أن مواصلة هذا المسار المتعنت هو ما سيقود إلى إراقة مزيد من الدماء وتعميم الدمار وثقل الأسى المرير بسبب توالي الانتقامات اللاوطنية والخسارات الوطنية جداً.
على أنه لا يجوز إعفاء الرئيس الانتقالي والرئيس السابق من المسئولية عما حدث إطلاقاً، فالأول اتسم باللامبالاة خلال مهام الفترة الانتقالية والثاني اتسم بالتربص ولم ينافسهما سوى المبعوث الأممي السابق جمال بن عمر الذي ذهب لممارسة سياسة تقسيم الكعكة المحترقة في ظل غياب الحد الأدنى من الضمير الدولي.
أما بقية أطراف المرحلة الانتقالية الأولى فكانوا يفتقدون للحساسية الوطنية ويكتظون بالشعارات حتى أنهم ببرودة أعصاب أو بغيبوبة ولا فرق، استغفلوا الشعب وزينوا له مؤتمر ومخرجات الحوار كأنها الجنة التي صارت مضمونه في اليد!
أما وقد قالوا بأنها ستنتج دولة مغايرة فهي دولة العصبيات وليس دولة المواطنة العابرة للمذهبية والمناطقية والجهوية التي حلمنا بها وهاقد أضعنا ماكان متاحاً للاصلاحات بانتظار السراب كما يبدو.
وشيئاً فشيئاً تكشف لليمنيين كيف أن المؤتمر والمشترك وما بينهما هادي ليسوا بذهنية وطنية تتوخى بناء دولة وتنمية مجتمع، وإنما بذهنية مراكز قوى ونفوذ وشبكة مصالح عسكرية ومشائخية وقبلية وتجارية تنقسم بشكل اكبر بين صالح والاصلاح على وجه التحديد.
ومن بين ركام الفوضى والكآبات والمخاوف والتوقعات والنوايا شبه الحسنة حينها في امكانية انتصار حلم التغيير والتلاحم الوطني وتطلعات الشعب مستقبلاً-رغم أن المسارات كانت حذرة وتحتاج إلى تراكم كفاحي شعبي سلمي لا ييأس- مرق الحوثي بوعيه العنفي السافر ليحتال ويهيمن ويصّعد من نزعات الثأر والاستئثار جراء تداعيات اجتياحاته المتهورة ماقبل الوطنية معتبراً أن كيان الدولة هي جماعته وكيان المجتمع هم أنصارها ومن لا يستمزج ذلك فهو عدوه وهكذا عدنا للمربع صفر، حتى أنه لا يؤمن بشيء مثل إيمانه بأن مافعله من هتك و تقويض وامعان في شج المجتمع ومصادرة الدولة هو الانجاز التاريخي الذي وعد به الله لـ”أنصار الله”.
وهكذا وجد الشعب نفسه أمام اعباء ضاغطة جديدة لم تكن في الحسبان أجبرته على المقاومة بينما يتكئ الحوثي على أوهام عنصرية إستعلائية وكلمة حق يراد بها باطل وجمع غنائم وقوة بلا شرعية تخوض حروبها المقدسة في عموم البلاد لينفتح على مصراعيه بالتالي ذلك المشهد المخيف الذي لا يعيد ذهنية الإمامة البائدة لدى قطاعات شعبية واسعة، وإنما يجر اليمن أيضاً إلى قلب حرب الوكالة الاقليمية جراء الابتهاج الإيراني للحدث وكأن هذا ما كان ينقصنا حتى أعقبت السعودية هذه الخطوة بالتدخل.. ثم ضمن ارتدادات هذا العامل ولاستعادة شرعية هادي كما تقول صارت تفرض قواعد اشتباك جديدة في صراعها مع ذراع إيران هنا.
وفيما قوبل مافعله الحوثي بانتقادات محلية وإقليمية ودولية واسعة كما برفض للدفع بالأمور إلى هذا المنحى بدا أنه منفصلاً عن الواقع ومسحوراً بالخراب رافضاً وحليفه صالح القرار الأممي 2216.
وهاهو الشعب مع مرور سنة على لعنة الحرب وتداعياتها الرهيبة يستمر كضحية مزدوجة إذ توغل الحرب الداخلية والخارجية في دمائه وإحراق ما حوله وكل من نجى من الحرب لا يستطيع ادراك ماذا يدور في الأفق لأن المشهد قد تعقد أكثر من اللازم.
والأسوأ أن تمدد القاعدة مثّل النتيجة لتمدد الحوثيين بل انه اعتبر “الحاضنة الخصبة للارهاب السني في مواجهة الإرهاب الشيعي” إذا جاز التعبير.
فالمعلوم أنها المشروع الأشد غموضاً ووحشية فيما تستغلها عدة أطراف في الداخل والخارج وهناك من يبرر لها للأسف.
اعتقد ياعزيزي أنك بدأت تفهني الآن.
وهذا مدعاة للاعتزاز بجهدك.
والحال أنه من السذاجة وقصر النظر توقع اغلاق كل الملفات التاريخية المتراكمة والشائكة بين يوم وليلة -خصوصاً في ظل استمرار عدم تجريم حمل السلاح خارج نطاق الدولة -مالم تكن هناك “ارادة فاعلة تسعى إلى توفير الشروط المناسبة لجعل مستقبل الأجيال الآتية مختلفاً تماماً عن تخبطات ومعاناة الجيل الراهن”.
و”الآن يغطس اليمن وإنسانه في صفر راكد خارج العصر خارج الحداثة وما بعدها وخارج الحضارة الإنسانية إجمالاً”.
ولكي تتجنب البلاد سيناريوهات ماضوية من شأنها التجدد مستقبلاً فإنه “لا ينبغي أبداً عدم التعلم من دروس التاريخ وعلى رأسها عدم تمجيد الحروب وأعمال الثأر وكل ما له صلة بثقافة الحرب الأهلية إذ لا يمكن ضمان التخلي عن عادة ممارسة العنف في حياتنا السياسية والاجتماعية بدون قطيعة عقلية ووجدانية كاملة مع تلك الثقافات الفظيعة”.
فـ”شأن بعض بلدان المنطقة عرف اليمن عبر تاريخه المعاصر محطات مختلفة وحروباً أهلية عديدة ونزاعات دموية جرت جلها على السلطة لكنه انفرد في كونه عرف محطة وحيدة وحرباً واحدة لم يغادرهما حتى الآن: محطة التخلف والحرب التي شنتها ضده الأنظمة المتعاقبة على حكمه بدءا ًمن نظام الأئمة”، وإذا ما كان الإنسان هنا يُلقّن الكثير من الأناشيد السعيدة بـ”اليمن السعيد” و” نجازات الثورة والوحدة” فإنه يظل مضروباً بواقع مجذوم ومشطوباً من مسودات كل حياة معقولة ناهيك عن الكريمة”.
وللتذكير توحدنا عام 90 بعد صراعات عنيفة بين أطراف في جيش الجنوب من ناحية، وأطراف في جيش الشمال من ناحية اخرى، وكذلك بعد صراعات بين الجيشين “انعكست اجتماعياً، بينما لم تتم معالجة آثار تلك الصراعات لا قبل الوحدة او بعدها”.
ثم وقعت حرب 94 ونتج عنها قضية جنوبية بسبب الإقصاء حيث “كان الخطاب الصاخب حينها بأن الشرعية هي التي انتصرت على التمرد”، الأمر الشبيه بما هو حاصل اليوم بينما قاد ذلك إلى نشوء مظالم ومفاسد بحسب كل الشواهد التي يراها حتى الأعمى ولا ينكرها إلا المتنطع المستفيد منها فقط.
غير أن التاريخ والمستقبل يفرضان على المنتصر اتباع سلوك توفيقي لا تفريقي، إذا أراد الولوج إلى مرحلة لا تتسم بكوارث المراحل السابقة ..” سلوك ناضج للتوصل إلى قناعة فكرية مشتركة وإعادة الالتزام والتعهد من قبل الجميع بالتخلي النهائي والحاسم عن القوة المسلحة وسيلة لإدارة اللعبة السياسية”.
وحتى لا يصاب كيان الجيش والمجتمع والدولة بمزيد من التفكك كانت الموضوعية ولاتزال تستدعي اعادة الرتق بصيغ وطنية لا بحسب الصيغ السابقة طبعاً.
في هذا السياق يجب التشديد على أنه لا فاعلية للانفعالية القائمة على قصر النظر لأن الانفعالية في ظل حاضر جديد يفتقد لجملة من الخيارات والبرامج المهمة التي تؤمن السير نحو المستقبل بسلام وسوية ورشد هو ما سيجعلنا كيمنيين نواصل المقامرات والغرق في الماضي تماماً.
لقد كانت صراعاتنا كلها منذ الستينيات شمالاً وجنوباً تتركز رافعتها المحورية في حالة الانقسام الذي يطرأ في الجيش أكثر من غيره وعدم معالجتها لتعاود الاستئناف أما الآن فزاد الطين بلة الانقسام الذي طرأ على المجتمع على نحو أكثر من فادح.
كما أن مشاكل البلاد المتراكمة والناشبة أو المستجدة والمتوقعة “لا يمكن معالجتها إلا من خلال جهود كافة الأطراف داخل الحكم وخارجه”.
أما تطنيش وترحيل تلك المشاكل والاستمرار في إذكائها أو التسويف بشأنها هو ما سيجعلها تقود إلى مزيد من الحروب التي كعادتها ستظل تخلف جراحات وأوجاع لا يمكن الاستهانة بها “مالم تتوقف الحروب والاقصاءات كسلوك قادم”.
لكن مثلما كان الماضي بحاجة إلى إصلاحات حقيقية شاملة وفورية “تقود إلى تحولات ملموسة وجوهرية تنتمي إلى قيم العصر”، مايزال المستقبل يحتاجها وبشدة لأنها إصلاحات كان يجب أخذها مبكراً “بعين المسئولية وعدم الالتفاف عليها كأن يتم تحويل مسألة الإصلاحات إلى علكة إعلامية بغية التكيُّف ديكورياً مع المستجدات ومغازلة الخارج وأقنيته المانحة”، كما حدث مراراً.
ومن أبرز تلك الإصلاحات هي الإصلاحات السياسية والدستورية “لتوسيع فرص المشاركة السياسية و إيقاف عملية توزيع المناصب العسكرية والحكومية وفق الأواصر الأسرية والحسابات المناطقية والقبلية والترضيات”، والولاءات الحزبية التي لاتحترم المعايير.. إضافة إلى “تطوير النظم القضائية للوصول إلى المستوى المدني المتجاوز للقضاء التقليدي حل الأجهزة المصممة للحد من الحريات السياسية والحد الكامل من التدخلات الرسمية في عملية الانتخابات كالتزوير والضغوط الأمنية والعسكرية والتلاعب بتوزيع الدوائر الانتخابية وتبني قوانين صارمة تمكن مؤسسات المجتمع المدني من عملية المساءلة، وإسقاط الحصانة الرئاسية والحكومية والعسكرية أمام القضاء والنص قانونا على تبعية جهاز الرقابة والمحاسبة لمجلس النواب بدلا عن رئاسة الجمهورية”.
كذلك يفتقد المستقبل إلى الإصلاحات الاقتصادية التي من شأنها “تضمين الميزانية العامة للدولة كافة الموارد المتحصلة بلا استثناء كمدخلات النفط كاملة مع فوارق أسعاره وإسقاط البنود الوهمية من الميزانية كالنفقات المركزية الجارية واتخاذ خطوات إصلاح متوازنة تضمن التنمية الاقتصادية الشاملة للمجتمع وإلغاء الازدواج الضريبي وإيقاف قائمة الاستثناءات التي تمنح لجهات منتجة ومستوردة دون مسوغ قانوني وإسقاط عوائق الاستثمار الحر والحد من تدخل العناصر والعصابات المتنفذة في العملية الاستثمارية وإتاحة الموارد الاقتصادية المختلفة للاستثمار الخاص وإلغاء كل العقود الاحتكارية التي تعوق ذلك، ودعم الاستثمارات الصغيرة لمحدودي الدخل على نطاق واسع، وتطوير برامج تمكين المرأة اقتصادياً وتحرير التجارة واعتماد سياسة السوق الحر ووضع قيود صارمة تمنع الاستغلال والاحتكار ووضع قوانين مفصلة تمنع التلاعب بالأسعار والمقاييس وتحمي المستهلك وتكفل حقوق العمال الكاملة سواء من ناحية الأجور أو الضمان الاجتماعي وساعات العمل”.
والحال أن اليمن استمر بحاجة ماسة إلى إصلاحات في مجال حقوق الإنسان والثقافة والإعلام والتعليم يحتاجها المستقبل بحيث تفضي فعلاً لاقولاً إلى “الالتزام الفعلي الكامل بكافة المواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وإلغاء كل ما يتعارض معها وضمان دستوري كامل للحريات الشخصية والمدنية المكفولة عالمياً وتحديد صلاحيات جهاز البحث الجنائي وسائر الأجهزة الأمنية بقوانين صارمة تحول دون أي انتهاك لهذه الحريات وإلغاء السجون الخاصة والتابعة لجهات رسمية مختلفة كسجون المشائخ والمجالس المحلية والمعسكرات وغيرها مع إعادة النظر في الأوضاع غير الإنسانية داخل السجون الرسمية وسحب المعسكرات من المدن والمناطق المأهولة والالتزام بعدم تدخل الجيش في القضايا الأمنية وتقليص ميزانية وزارة الدفاع وضمان حقوق المرأة كاملة في مختلف التشريعات واستبدال كل القوانين التي تحرمها من حقوقها الشخصية والمدنية والنص قانونا بتجريم كل تمييز ضدها وضمان حقوق الطفل والنص قانونا بتجريم العمالة المبكرة واستغلال الطفولة المحرم عالميا وضمان حرية المعتقد وحماية حقوق الأقليات الدينية والمذهبية فضلاً عن رفع القبضة البوليسية عن الجامعات والمؤسسات الثقافية والتعليمية وتطوير نظم الاتصال وخدمة الإنترنت ورفع الرقابة والحواجز التي تضعها السلطات عليها تحت أي مسمى و ضمان حق المواطنين والهيئات والمؤسسات الإعلامية والمدنية في الوصول لمختلف المعلومات المتعلقة بالعمل الحكومي، وإرساء مبدأ الشفافية وإلغاء وزارة الإعلام وإتاحة الفرص الكاملة للعمل الإعلامي المستقل وتجريد الإعلام الرسمي من الهيمنة السياسية والإدارية لأي طرف لانه ملك الشعب وإتاحة الفرصة للأحزاب والمستثمرين والمؤسسات المدنية لتأسيس وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومقروءة لا تخضع للسبّابة الرسمية وإجراء تعديلات جوهرية في أنساق التعليم بصورة تضمن إلغاء الأسلوب القمعي في التعليم وتجاوز التعبئة الأيديولوجية والعقائدية ومحاربة العلم وإنشاء بنية ثقافية حقيقية واسعة وتوفير الأجواء لنشوء دور النشر والسينما والمسارح ودور الثقافة المستقلة مع إتاحة الفرص لتكوّن المؤسسات البحثية والعلمية”.
وبلاشك فإنه لغياب ذلك كله ظلت الأزمات تتجذر في كل انعطافة طارئة ومفاجئة باسم التغيير لنكتشف انها انعطافة سطحية ومجوفة من الداخل عن هموم التغيير المنشودة بحيث لم يتم النظر خلالها باعتبار عميق لكل الانحرافات والأزمات المتشابكة التي ظلت تتكدس من عقد إلى عقد آخر.
وعليه كنا ولازلنا نعود إلى النقطة الاولى داخل الدائرة التي لم نخرج منها منذ سنوات لنستمر في حالة التيه لأنه “لم يتم الاقتناع والإيمان بأهمية تأطير التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحول بينها وبين أن تتحول إلى عنف انتقامي مدمر يختلط فيه الشخصي بالعام والفئوي بالوطني والحق بالقوة وما يجوز بما لا يجوز”.
و من هنا يبقى المطلوب من جميع الأطراف على السواء قراءة المعطيات السابقة والراهنة بنفس مستقبلي جاد نحو تفعيل العمل التنويري الوطني اللائق للتصرف بقدر من الاعتدال والتنازل مع كل الملفات والمعضلات الأمر الذي من شأنه وحده أن يقود إلى نزع التشوهات والمكابرات الخطيرة من “النفسية اليمنية المهيأة للتطرف وأخذ المواقف الحدية بين أقصى اليمين وأقصى اليسار ورفض الحلول الوسط”.
ولئن كان على الجميع مسؤوليات متفاوتة في خلق المناخات الملائمة لنقلة نوعية كهذه فإن من أبرز هؤلاء الآن هي الجماعة الحوثية المسلحة التي أصابتها نشوة الوهم بنفوذ المصالح التي نشأت بعد توسعاتها وانقلابها واعتدائها على الرمزيات الجامعة لليمنيين.
والمعنى أنه ليس أمام الحوثي سوى أن يبادر لحل ميليشياته والتحول إلى كيان سياسي إذ ما دون اتباعه لهذا المسعى سيستمر ضد الدولة والمجتمع وضد نفسه بالمحصلة.
وعليه ليس من مصلحة الشعب على الإطلاق أن يستمر التاريخ اليمني المعاصر يؤكد فقط على أن هناك صراعاً سياسياً انعكس على الجيش والمجتمع والدولة اللذين انقسما بشكل حاد في حين يتطلب الأمر بعد انتهاء الصراع توافق الجميع على عدم استغلال الجيش في صراعاتهم وترميم وصيانة الدولة والمجتمع لتتحول إلى صراعات ديمقراطية عبر الصندوق ووفق تحولات جديدة تعيد الاعتبار لمفاهيم وطنية أساسها الدستور والقانون وغلبة الروح الجديدة بالتسامح و البناء والابداع ومعالجة القضايا الأساسية والعيش معاً في سلام.
فالمعالجات الفهلوية والمتسرعة والزائفة لآثار الصراعات السابقة ومحاولة توظيفها لأهداف سياسية قد أدت إلى اذكاء صراعات جديدة لا أكثر كما أن “الحرب حين تضع أوزارها فلا يعني هذا أنها لحظة نهاية التاريخ”، وإنما بداية تاريخ بحيث لا ينبغي ولوج المرحلة الجديدة بأثقال الماضي والحروب لأنها ستعيق عن المسير السوي كما ستزداد وتتفاقم لتصبح قضايا متأججة لابد أن تنفجر مجددا في وجه الجميع.
بالمقابل لا يجب أن يؤاخذ كل هاشمي بجريرة الحالة الحوثية، لكن قطاعات واسعة من الهاشميين الذين ورطتهم تلك الحالة في الصدام مع المجتمع والدولة إضافة إلى الإقليم والعالم ستحتاج حتماً إلى شفافية عميقة مع الذات للإقرار بخطأ لجوء الجماعة للسلاح كوسيلة للاستيلاء على السلطة، وكذا خطأ عدم تحولها إلى كيان سياسي وبالتالي خطأ عدم تحيزها إلى حق المواطنة المتساوية لجميع المواطنين.
فلقد اصطدم الشعب بالعصبوية الهاشمية التي كشفها تطرف الايدلوجية الحوثية اذا جاز التعبير، ولهذا كان من الطبيعي أن ينالهم السخط من قبل قطاع واسع من الشعب.
أما القراءة الهادئة لواقع مناخات الحرب القائمة فيجب أن تفضي إلى الإيمان بأهمية أن يقوم شيعة الحوثي بلجمه قبل فوات الأوان.
صحيحٌ أن من حق هؤلاء الإيمان بمسألة أهلية البطنين للإمامة، مثلاً، غير أن هذه المسألة يجب أن تظل لدى كل فرد يستسيغها ويدور في نطاقها وفق طابعها الوجداني الروحي فقط، لأنه من المحال فرضها كمزاج تام ونهائي على أكثرية المواطنين، بينما نحن في زمن الديمقراطية التي لن يقبل الشعب مادونها أما الانشقاق الذي أحدثته جماعة الحوثي والموالون لها في المجتمع والدولة فبالتأكيد له تبعاته الخطيرة خصوصاً وهو يقوض الهوية الوطنية الجامعة.
ثم ماذا يعني القول اليوم إن علياً كان الأفضل لخلافة النبي، أو إن الخلافة في قريش كما يرى أهل التطرف في الجانب السني بينما الإمامة أو الخلافة –كما يقول العقل الوطني الحديث -هي للصندوق الذي تقرره إرادة الناس وليس لفردأاو جماعة.
وفي السياق كانت ثورة سبتمبر 62 قد قطعت شوطا صعباً في اعلاء المواطنة المتساوية كما كان الناس على مستوى لافت من التسامح بسببها، إذ بالرغم من كل الشوائب استطاعت إلى حد كبير دمج الشعب مع بعضه.
ولهذا لم يكن الامتياز الدستوري لعدناني أو قحطاني دون سواه في الحكم، بل إن سبتمبر الذي نعترف جميعاً بأنه تعرض إلى انحرافات واستغلالات وأخطاء –اوصلتنا الى هذا الحال – استمر محافظاً على قيمته الجوهرية في عدم منح أي امتيازات دستورية لفرد أو جماعة على أساس من الأحقية الحاكمية المزعومة والموهومة لكل من يريد ابتزاز واستغلال الشعب بحسب السلطة العسكرية أو حتى السلطة المشيخية و السلطة الثيوقراطية الدينية اللائي تبادلتا احياناً كما تقاسمتا غالباً، انهاك اليمنيين وحلمهم العام بيمن حر وديمقراطي موحد وجديد الوعي لا ينبغي توريث الجمهورية فيه بأي حال من الأحوال.
ولعل التحولات المهمة التي حدثت في المجتمع كان من الطبيعي أن تنتج انهيارات وانكشافات عديدة في مراكز الهيمنة التقليدية تلك بكل ماتنطوي عليه من طاقة سلبية استلابية استمرت تدأب على اعاقة تطور المجتمع المتصارع معها كما استمرت تعادي كل قيم ترسيخ فكرة الدولة الحديثة معتبرة بعنجهية لامثيل لها أن الشعب مجرد قطيع تابع لا يستطيع شيئاً سوى تفويض أمره لها فقط.
ويبقى القول إن الإرهاب القاعدي سيبقى معركة قوى الشعب في إطار الدولة حال توافقت وأرادت بالفعل تلك القوى أن تنبثق اليمن من بين الرماد مستقبلاً مالم فإن قوى جديدة سيفرزها الصراع يجب أن تكون بحس وطني عالٍ لانجاز مافقدناه ووضع القوى المعيقة عند حدها.. صحيحٌ أنها معركة بتكاليف أكبر ولكن لابد منها للمفاصلة التاريخية ووضع المسار في الطريق الصحيح.
ولكي يرتفع صوت الدولة في المناطق التي لطالما تم اهمالها ويقل فيها التمدن والانتاج وتحترف حمل السلاح ويزدهر فيها التطرف السني أو الشيعي يفترض العمل فيها بطريقة إيجابية دؤوبة تنعكس على حياة الناس مباشرة من خلال تحديثها وتنميتها.
بهذا فقط يمكن تحقيق الكثير من المعاني الجوهرية التي مازالت قوى التغيير الواقعية تتطلع إليها وبالذات معاني تفعيل جذوة المشروع الوطني واستعادة روح الوحدة والجمهورية وكيان الدولة وشرعية التوافق السياسي والعملية الديمقراطية والشراكة اللائقة والاندماج المتفاعل -لصالح اليمنيين- مع الإقليم والعالم فضلاً عن معاني رسوخ إرادة انتشال اليمن من معمعة الانهيارات المتسارعة والمهووسة.
________________________________
احالات :
– المصـالحـة في سبيـل الديمقراطية والبناء .. الأبعاد والضرورات المحلـية للمصالحة في اليمن -جار الله عمر 1998
-مبادرة الاصلاح الشامل التي تبناها كل من نبيل سبيع ـ عمار النجار ـ علي سالم المعبقي ـ نائف حسان ـ مصطفى راجح ـ محمد أحمد عثمان ـ عبدالقوي غالب ـ فتحي أبوالنصر -2004