لم أفهم بعد من حكاية “وثائق بنما” ما هو أهم وأكثر دلالةً من أن الصحافة تسترد عافيتها، على الأقل أمام الرأي العام الذي فقد جزء كبير منه ثقته بها، تحت وطأة ما ألمّ بها من أزماتٍ فنيةٍ أثرت على مكانتها الكاشفة للخبر والصانعة للرأي لم أفهم بعد من حكاية “وثائق بنما” ما هو أهم وأكثر دلالةً من أن الصحافة تسترد عافيتها، على الأقل أمام الرأي العام الذي فقد جزء كبير منه ثقته بها، تحت وطأة ما ألمّ بها من أزماتٍ فنيةٍ أثرت على مكانتها الكاشفة للخبر والصانعة للرأي العام والموجهة له. أما الأسرار الهائلة المتعلقة بفساد سياسيين ورياضيين وفنانين كثيرين، وكثيرين من متنفذي هذا العالم ومشاهيره، من بعض من وردت أسماؤهم في الوثائق التي نشرت، والأخبار التي رشحت من التسريب، فلم تكن بحاجةٍ إلا لأدلةٍ موثقةٍ ورسميةٍ، كالتي يُفترض أن “وثائق بنما” قدّمتها، أو ستقدمها للناس أجمعين. ذلك أن لا جديد تحت شمس الفساد، فالجميع تقريباً يعرف الفاسدين في محيطه الوطني، خصوصاً إذا كان الفساد بذلك الحجم الذي يؤثر في الثروات الوطنية وحقوق الشعوب فيها على نحو كبير. لكن، لا يقين عادةً ما دام الفاسدون قادرين على إسكات الجميع.
أما إن تحدثت صاحبة الجلالة الصحافة، مدعّمةً حديثها بالأدلة والوثائق، فلا يعود الصمت يجدي. وعندها، وخصوصا في المجتمعات الصحية، سيتسابق الجميع على شحذ السكاكين، وهم يراقبون جمل الفساد في طريقه نحو السقوط المؤكد.
في التحقيق الاستقاصي الذي شارك فيه صحافيون من مؤسساتٍ صحافية، ورقية وتلفزيونية، كثيرة، ذلك أنه أكبر من أن تنفرد به صحيفة واحدة، إثباتٌ جديدٌ على أن الصحافة ما زالت تملك زمام الأمور في مسألة الرقابة الشعبية. وفي ظل الخلط الحاصل لدى القراء، هذه الأيام، ما بين الصحافة مهنةً والصحافة كياناً ورقياً، يتقدّم هؤلاء الصحافيون، ليبرهنوا على أن الفرق كبير بين الإثنين، وعلى أن المعنى الحقيقي للصحافة يكمن في أنها أداة كشف حرّة، بغض النظر عن الممارسات السلبية التي يمكن أن يمارسها كثيرون من منتسبيها، استثمارا لخصائصها الكاشفة تلك. وكل ما يحتاج له الصحافي الحقيقي، بالإضافة إلى أدواته المهنية، حرية مطلقة وضمير حي وشجاعة يواجه بها الفساد، ومحاولاته المستميتة لإسكات كل صوتٍ، وإنْ بطلقات الرصاص، كما حدث لصحافيين كثيرين، لقوا حتفهم اغتيالاً، وبقيت ضمائرهم حية.
يتحدّث العالم الذي انفجر بالمعلومات المذهلة، قبل أيام، عن أزيد من 11 مليون وثيقة، رسمية وشبه رسمية، تتعلق بحساباتٍ ماليةٍ لمتنفذين من بلادٍ عديدةٍ، وحّدهم الفساد المصرفي والتهرب الضريبي تحت مظلته السوداء، عبر عملياتٍ مصرفيةٍ معقدة في ما وراء البحار، وكشفهم ضوءٌ مبهر، سلطته الصحافة الحرّة التي لم تخف من النتائج، ولم تخشَ المضيّ في جهدها، تحت وطأة ضخامة الأسماء وسلطاتها الواسعة، ولم تنخدع بدعايةٍ سلبيةٍ عن دورها المتقهقر في تأثيره، بل تعاملت بوعيٍ تام، إلى درجة أنها قرّرت التشارك فيما بينها، فخبر كهذا أكبر من التراجع، ومن إغراءات السبق والانفراد.
يقول بوف هير مؤسس صحيفة لوموند الفرنسية العريقة؛ “كانت الصحف اليومية الكبيرة وستكون مؤسسة صناعية وتجارية كبيرة، لكنها لن تكون، ويجب ألا تكون، ولا يمكن أن تكون مجرد ذلك فقط، فهي وسيلة الفرد للحصول على المعلومات. بمعنى أنها توفر له العناصر التي تمكّنه من الحكم على الأمور، والوصول إلى فكر معين بشأنها”، وما زالت نظرية ذلك الصحافي الفرنسي معتمدةً لدى كل صحافي حقيقي، وها هو تحقيق بنما الاستقصائي جاء ليؤكدها، عبر أكبر تسريبٍ من نوعه في التاريخ، كما وصفته وسائل الإعلام، ليس لجهة حجم الوثائق المسربة وحسب، وإنما أيضا لحجم تأثيره على مصائر متنفذين وحكوماتٍ، وربما دول أيضا.
ما زالت الصحافة تستحق لقب صاحبة الجلالة.. القادرة على حرف اتجاه القرّاء عبر المساهمة بالكشف عما يعينهم على معرفة الحقيقة، ولن يبقى أمامهم عندها سوى القيام بدورهم هم أيضاً.
نقلا عن العربي الجديد