شهدت عدن حراكا سياسيا وثقافيا أخذ يتصاعد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي كانت بريطانيا المسيطرة على جنوب اليمن إحدى الدول المنتصرة في هذه الحرب، وقد شارك الإسلاميون في هذه الأنشطة وكانوا جزءاً من الحراك المتصاعد حينها.
وكان للشيخ محمد بن سالم البيحاني الذي حصل على تعليمه في اليمن ثم في الأزهر حضور ونشاط ملحوظ، فكان من المؤسسين لكتيبة الشباب اليمني في القاهرة سنة 1940، وكان مؤسسوه من شمال اليمن وجنوبه، وبعد عودة البيحاني إلى عدن أخذ يحمل على عاتقه مهمة مواجهة المشاريع البريطانية الرامية إلى فصل مدينة عدن عن البيئة المحيطة بها، من خلال تشجيع الهجرة إليها من شتى الجنسيات والأعراق، مع حرمان اليمنيين – سواء من المحافظات الجنوبية أو الشمالية من الامتيازات التي يحصل عليها القادمون إلى عدن من وراء البحار والمحيطات.
وعندما تشكلت الجمعية الإسلامية في العام 1949 برئاسة المحامي محمد عبدالله، كان من بين أعضائها المؤسسين عدد من العلماء والشخصيات الإسلامية أمثال: الشيخ محمد بن سالم البيحاني، وعلي باحميش، ومحمد بن علي الجفري، وسالم الصافي وعمر سالم طرموم وغيرهم، وكان للجمعية دور في نشر الوعي الديني والسياسي، والمطالبة بعروبة عدن ويمنيتها، بعدما حاول الانجليز أن يجعلوها مدينة مختلطة، وتكاد تكون فيها الغلبة لغير اليمنيين، ويحسب لهذه الجمعية أنها بدأت العمل لتأسيس المعهد العلمي الإسلامي، وبدأ الشيخ البيحاني بتشكيل لجنة لجمع التبرعات لتأسيس المعهد، كما بدأ في إعداد المنهج العلمي للمعهد.
وبحسب الدكتور/محمد علي البار فقد تجمع لدى الشيخ البيحاني اتجاه صوفي معتدل واتجاه سلفي متزن، وفكر إسلامي حديث، متتبعاً بذلك مدرسة الإمام محمد عبده والشيخ رشيد رضا، لينفتح على العالم ويدرك ما يدور فيه، مع توجهه نحو الاتجاه التربوي الإصلاحي السياسي، مع أنه كان يرى أن الإصلاح يتم أولاً عن طريق التربية، لذلك كانت جهوده في الغالب تربوية تعليمية، متفقاً مع طريقة محمد عبده، خلافاً لأستاذه جمال الدين الأفغاني الذي يعطي الأولوية للإصلاح السياسي.
كان الشيخ البيحاني يلقي الخطب والمحاضرات والمواعظ في مسجد بانصير ثم في مسجد العسقلاني بكريتر عدن، وفي العام 1957 أسس الشيخ البيحاني المعهد العلمي الإسلامي ومن خلاله برز نشاط العلماء والدعاة والرموز الإسلامية في مجال التربية والتثقيف.
وكان بعض شباب التيار الإسلامي من أبناء عدن يدرسون الجامعة في القاهرة، ومنهم الدكتور/ محمد علي البار، الذي عاد إلى عدن، وبدأ العمل على نشر الأفكار الإسلامية، في مواجهة الأفكار الغريبة والوافدة من الخارج، وما كانت السلطات البريطانية من أفكار ومشاريع تسعى من خلالها لعزل عن محيطها اليمني والعربي، وإبقائها تحت سيطرة الاستعمار، وكذلك بقية المناطق الجنوبية التي كانت بريطانيا تطلق عليها “المحميات الشرقية والغربية”.
بدأ الإسلاميون عملهم المكثف في عدن بتأسيس المركز الثقافي الإسلامي بصورة رسمية في العام 1966، بعد انطلاق ثورة الرابع عشر من أكتوبر، ويعد المركز الإطار الثقافي والتربوي الجامع للتيار الإسلامي في عدن، وضم عدداً من العلماء والدعاة والخطباء وطلاب العلم، وتولى رئاسة المركز الدكتور محمد البار وأمانته العامة الأستاذ عمر طرموم.
وبرز من علماء عدن وخطبائها الشيخ علي محمد باحميش، العالم الأزهري الذي كان له حضور يوازي حضور الشيخ البيحاني، سيما في الجمعية الإسلامية والمعهد ثم في المركز الإسلامي، وكان في بداية حياته يجمع بين طلب العلم والبحث عن الرزق، فهاجر إلى الصومال والحبشة طلباً للرزق، ثم عاد إلى اليمن، قبل أن يسافر مرة أخرى إلى الحبشة فالسودان ثم مصر، وبعد عودته إلى عدن عام 1938 عمل مديراً لمدرسة بازرعة الخيرية الإسلامية، واستمر فيها عشر سنوات، وكان من تلاميذه في المدرسة عبدالله باذيب أحد مؤسسي التيار الماركسي اليمني، وفي العام 1948 أسس باحميش صحيفة الذاكرة، وهي أول صحيفة دينية أسبوعية.
ويعد الشيخ باحميش والشيخ البيحاني من أوائل المشاركين في إذاعة عدن منذ تأسيسها في العام 1953، حيث كان الشيخ البيحاني يقدم حديث الخميس، والشيخ باحميش يقدم حديث الجمعة.
وتتلمذ كثيرون على يد الشيخين محمد بن سالم البيحاني وعلي محمد باحميش، وفي مقدمتهم الشيخ محمد عبدالرب جابر أحد الأعضاء المؤسسيين للمركز الإسلامي، وقد أصبح فيما بعد واحداً من قادة العمل الإسلامي على مستوى عدن والجنوب عامة.
الإسلاميون ضد الاحتلال والاقتتال الأهلي
في العام 1960 أسس المناضل الكبير أبوبكر شفيق، أول مجموعة لقتال الانجليز، وكان أحد الشباب الإسلامي، (وهو أحد قيادات الجبهة القومية التي تأسست سنة 1963، وأعلنت الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني)، وحسب ما ذكر رفاقه في تلك المرحلة فقد كان جميع أعضاء المجموعة التي شكلها بطريقة سرية من الشباب الملتزم دينياً، وبعد ذلك سارعت سلطات الاحتلال لاعتقال أبوبكر شفيق، ومع أنها أفرجت عنه لكنها عاودت اعتقاله أكثر من مرة، وفي المعتقل الذي أودع فيه سنة 1966 سمح الانجليز لبعض الأطباء بزيارته والاطلاع على وضعه، وكان يطلب أطباء محددين ممن يعرفهم من ذوي الاتجاه الإسلامي، وكان يطلب منهم تزويده بالكتب الدينية.
كان للدكتور محمد علي البار رئيس المركز الإسلامي دور مشهود في مستشفى الملكة إليزابيث (الجمهورية حالياً)، ابان حرب التحرير وفي المواجهات بين الجبهتين القومية والتحرير، بحكم أنه أصبح أحد كبار الأطباء في المشفى إلى جانب كونه عضواً فاعلاً في قيادة اتحاد الأطباء العرب في عدن، وعندما اشتدت المواجهات وزادت أعداد القتلى والمصابين اضطر للسفر إلى القاهرة لاستجلاب أطباء اخرين يساعدوا في مواجهة ازدياد حالات الإصابة حينها، كما أن الدكتور البار من أكثر الأشخاص الذين كانوا يلتقون القيادي البارز في الجبهة القومية أبوبكر شفيق، خاصة أثناء اعتقاله من قبل الانجليز.
وكان الشيخ البيحاني وزملائه وتلاميذه من أقوى الأصوات في مواجهة الاقتتال الأهلي بين أبناء الوطن من الجبهة القومية وجبهة التحرير، عندما نشبت المعارك الدامية بين الطرفين، وأوقعت عشرات القتلى ومئات الجرحى، وكانت هذه الأصوات تطالب الجميع بالكف عن قتل بعضهم بعضاً في الوقت الذي لا يزال المستعمر الأجنبي يحكم سيطرته على البلد، ودعا البيحاني – من خلال الخطب والمحاضرات منتسبي الجبهتين إلى التفاهم وإنقاذ البلد من الصراع وحقن الدماء.
بعد الاستقلال: سيطرة اليسار وإقصاء الجميع
في الثلاثين من نوفمبر 1967 أعلن الاستقلال ورحيل الاستعمار البريطاني، وقيام الدولة في جنوب اليمن، وتسلمت الجبهة القومية مقاليد الحكم، حيث تولى الرئاسة قحطان الشعبي، وقام وفد من رموز التيار الإسلامي ضم عدداً من العلماء ومسؤولي المركز الإسلامي، وعلى رأسهم أمين عام المركز الشيخ عمر طرموم، ومعه مجموعة من علماء عدن أمثال الشيخ مطهر الغرباني والشيخ كامل صلاح، قاموا بزيارة رئاسة الجمهورية بهدف التهنئة بتحقيق الاستقلال، والمطالبة بأن يتم التأكيد على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة. وكان في استقبالهم فصيل عبداللطيف الشعبي الذي تولى رئاسة الحكومة فيما بعد، وقد أحسن استقبالهم واستمع لمطالبهم.
واجتمع قادة التيار الإسلامي من علماء ومثقفين -باسم المركز الإسلامي- وأعدوا رسالة وقع عليها عدد كبير من العلماء والدعاة والمثقفين، والتقوا مع رئيس الجمهورية وسلموه الرسالة التي تضمنت المطالبة بـ”تعزيز هوية الشعب وتصفية الموروثات السلبية للاستعمار، وتحقيق العدل الاجتماعي، وإقامة نظام وطني إسلامي يستمد مشروعيته من الشعب”، معلنين استعدادهم للعمل في إطار النظام الجديد، ومن جهته أعرب لهم الرئيس قحطان الشعبي عن ارتياحه بهذه المطالب ووعدهم بعرضها على قيادة الجبهة القومية، غير أن الصراع سرعان ما احتدم بين التيار اليساري الماركسي من جهة وتيار قحطان الشعبي وحلفائه من جهة ثانية، وبعد أقل من عامين على قيام الدولة استطاع التيار اليساري السيطرة على السلطة بشكل كامل وتمكن من إقصاء التيارات الأخرى بما فيها التيار الإسلامي، وهو ما دفع بالغالبية منهم لمغادرة عدن، ومنهم الدكتور/ محمد علي البار الذي توجه للقاهرة لاستكمال دراسته العليا، وكذلك العلماء والرموز الإسلامية البارزة، حيث غادر الشيخ البيحاني وعمر طرموم وأبوبكر شفيق إلى تعز، وبقي بعض العلماء من مؤسسي المركز أمثال الشيخ باحميش الذي تعرض للتصفية الجسدية في العام 1977 على يد أحد عناصر الحركة الماركسية الحاكمة، فيما تعرض الشيخ محمد عبدالرب جابر للاعتقال أكثر من مرة بسبب معارضته للتوجهات الماركسية، ومن بقي في عدن فإنه أصبح ممنوعا من الخطب والمحاضرات بعد إغلاق معهد البيحاني والمركز الإسلامي وملاحقة رموز التيار الإسلامي.