بعد أربع سنوات تقريبا على اتهامها طهران بتسليم جبهة البوليساريو الانفصالية أسلحة متطورة، وخصوصا صواريخ أرض جو من طراز ستريلا، اتهمت الرباط، في الأسبوع الماضي، طهران بتسليم الجبهة ذاتها طائرات مسيّرة (درونز). وجاء هذا الموقف لتسليط أضواء أكثر على ما صرّح به ما يُعرف باسم وزير داخلية جبهة البوليساريو، في حديث غير رسمي في نواكشوط، بأن “الجيش الصحراوي سيستخدم قريباً طائرات من دون طيار في حرب الاستنزاف في الصحراء”.
في الحالة الأولى، كانت الرباط قد طلبت من السفير الإيراني المغادرة بعد حصولها على معلوماتٍ كشفت دعما ماليا ولوجستيا وعسكريا قدّمه حزب الله اللبناني لبوليساريو “لتكوين قيادة عسكرية، وتدريب عناصر من الجبهة على الحرب، فضلا عن تسليمها أسلحة”. ولم يعلن المغرب القطيعة إلا بعد أن سافر وزير خارجيته ناصر بوريطة إلى طهران، في سلوكٍ غير مسبوق، أو غير معتاد على الأقل، وتقديم كل ما تجمَّع لدى الرباط من معطيات وحجج عن هذا التورّط ضد وحدته الوطنية. واكتفت إيران بنفي الاتهام بدون أن تعطي للملف المغربي ما يكفي من اهتمامٍ كانت توجبه اللحظة وقتها.
في الموقف الثاني المتعلق بالطائرت المسيرة، لجأ المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني إلى محاولة تحيين الأزمة كما لو أنها جديدة، بربطها باستئناف العلاقات بين الرباط وتل أبيب، ضمن اتفاق ثلاثي ضم واشنطن كذلك. بل ذهب كنعاني الى حد دعم الانفصال، ودعوة المغرب إلى “وضع الأسس لتحديد مصير الشعب الصحراوي ..”!، وهو ما يعني بوضوح الوقوف إلى جانب الانفصاليين. .. والحال أن المعطى الإسرائيلي، في جميع الأزمات بين البلدين في فترات متفاوتة، لم يكن حاضرا فيها في شمال أفريقيا بالقدر نفسه حاليا.
وقد رفع المغرب من درجة الاتهام إلى ما فوق العلاقات الإيرانية المغربية إلى مستوى تسليح الملالي (الجماعات المتطرّفة والكيانات الانفصالية داخل المنطقة العربية، من بينها جبهة بوليساريو بتسليمها الطائرات المسيّرة عن بعد، الدرونز، بهدف تقويض الأمن والسلم بالمنطقة). ولم يغب عن المتتبعين الذين حلّلوا تصريحات المسؤولين المغاربة أنهم لا يضعون بلادهم في “كفة توازن” بينها وبين الحركة الانفصالية في امتلاك الطائرات المسيّرة بقدر ما يسائلون الدور الإيراني في المنطقة، وذلك بالإحالة على تشابه الحالات بين الحوثيين في اليمن والانفصاليين في البوليساريو، وهذه من كيانات أصحابها “ليسوا أطرافا في اتفاقيات نزع السلاح، ولا في اتفاقيات استخدام الأسلحة، وبالتالي من عليه أن يتحمّل المسؤولية أمام المجتمع الدولي هي الدول التي تسلمهم هذه الأسلحة، وإيران لا يمكنها أن تستمر في استغلال هذا الفراغ، وأن تستمر في تقويض الأمن والاستقرار في المنطقة العربية”. وبهذا، يمكن القول، بدون الخوف من المجازفة، إن هذا تحوّل جوهري في طبيعة النزاع بين إيران والرباط، فقد سبق أن حدثت الأزمة بين العاصمتين بعد الثورة الإسلامية في عهد الخميني، وكانت المواقف متأرجحة بين دعم الثورة (والاحتفاء بها) والتوجس من مستقبل المنطقة بعدها. ويتضح ذلك من خلال افتتاحيات صحيفة البيان، الناطقة باسم ورثة الشيوعيين المغاربة في 31 أغسطس/ آب 1979، وصحيفة المحرّر (الاتحاد الاشتراكي حاليا) في 13 فبراير/ شباط 1979، وصحيفة العلم، لسان حال حزب الاستقلال (أعرق تنظيم سياسي مغربي) في 31 يناير/ كانون الثاني 1979، وموقف الملك الراحل الحسن الثاني الذي نزع اي بعد ديني إسلامي عن الثورة.
كانت القطيعة بمبرّرات أيديولوجية – دينية، ردت عليها إيران بموقف معاد للوحدة الترابية للمغرب، عبر الاعتراف في 1980 بـ”الجمهورية الصحراوية”. ومنذ ذلك الوقت، ستعرف العلاقات المغربية الإيرانية تحوّلا جوهريا يتجاوز الحوادث التي طبعت تاريخها منذ انتصار الثورة، حيث تذبذب هذه العلاقات تذبذب أسنان المنشار، فالقطيعة الثانية كانت طبيعتها تضامنية بعد حوادث إيران والبحرين في العام 2008. وفي 2009، جرى التراشق بين البلدين بسبب وقوف المغرب إلى جانب البحرين، بعد إعلان مسؤولين إيرانيين أن البحرين محافظة إيرانية، إلى جانب عوامل أخرى ساهمت في القطيعة الجديدة، وتجميد العلاقات إلى حدود عام 2014. وانتقلت المسوّغات السياسية إلى الانتشار الشيعي في منطقة غرب القارّة الأفريقية. وقتها صرح ناصر بوريطة بأن “الأمن الروحي للمغاربة وللقارّة الأفريقية يعتبر من بين الأولويات للتصدّي للأطماع الإيرانية في القارّة”.
لم يعد هذا المشهد الثنائي كافيا لتوصيف العلاقة، نظرا إلى التغيرات الجوهرية الحاصلة، بعضها يهم البلدين وبعضها الآخر يتعلق بالمعطيات المستجدّة في رقعة الشطرنج شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وقد يبدو أن العلاقة تتحسّن كلما فاز التيار الإصلاحي في طهران، وحاز بعض المواقع في القرار السياسي، في حين تتأزّم عند العكس، كما يتحصّن من خلال حوليات العلاقة هاته. ومن ذلك استعادة العلاقات عافيتها تدريجيا، ما بين 2014 و2018، إذ ساهم وصول حسن روحاني إلى منصب الرئاسة وانتهاء حقبة سلفه أحمدي نجاد، في تهدئة مخاوف المغرب من التوجهات الإيرانية. وللعنصر الثاني بُعد عربي، حيث تعيدنا الأجواء الحالية إلى مثيلتها في إعداد القمة العربية لقمّة فاس 1982. وقتها أعلن الحسن الثاني استعداده إلى جانب باقي الدول العربية في مؤتمر القمة لتنفيذ التزاماته تجاه العراق في حربها ضد إيران. ونجد هذه الأخيرة اليوم في صلب جدول أعمال القمة العربية المقبلة في الجزائر، ويلعب المغرب دورا مهما في ما يتعلق بأشغال “اللجنة الرباعية المتعلقة بتدخلات إيران في الشؤون العربية”. من خلال تقديم مقترحاتٍ تبنتها اللجنة بخصوص تجنيد الأطفال وتسليح المليشيات ودعم الانفصال، وهو في ذلك يربط بين البوليساريو والحوثيين المدعوميْن من إيران!
يهم العنصر الثالث المغرب الكبير بوصفه فضاءً جيوسياسيا لم يعد محمية فرنسية محضة، ولا غربية بحتة، تخضع فقط لتوازنات الدول المصنِّعة للحدث الدولي، بل دخلته كذلك قوى جديدة، تسعى إلى جعل هذا الفضاء امتدادا لها، كتركيا وإيران وروسيا بالأساس .. مع الطموح المغربي بلعب دوره قوة إقليمية، في شمال أفريقيا وفي القارّة، وهو طموحٌ بدأ يكتسِب ممكناته الملموسة، ما جرَّ عليه غضب الحلفاء القدامى أنفسهم، ومنهم فرنسا ذاتها.
تمتح هذه التحولات جذرها من تغير الاعتبارات الاستراتجية، وانتقالها من صراع نفوذ أيديولوجي وعسكري إلى صراع بناء الدولة الوطنية ووحدة الدول، وهو الصمام الأساسي في تحديد التحالفات.. وبلغة أوضح، كان “التناسب” الجيوسياسي السابق يقوم على علاقة تضادّ بين القوتين، الرئيسية فرنسا والصاعدة إيران، وكلما ابتعدت الدول عن إيران اقتربت من فرنسا، وكلما كرّست علاقتها بباريس والاتحاد الأوروبي ترهلت العلاقة مع طهران. أما اليوم فنشهد أن العلاقة المغربية مع العاصمتين في حالة توتر أو برود، حسب درجة التورّط في قضية المغرب الأولى .. الصحراء، فالموقف الفرنسي أدنى بكثير من مواقف دولة حاسمة من قبيل الولايات المتحدة، وأقل من ألمانيا، الشريك الأوروبي لفرنسا، ومن دون ما ذهبت إليه مدريد التي تعد اليوم قطبا جيوسياسيا عسكريا للغرب، وأوروبا تحديدا.
وفي الخلاصة، كانت لدى المغرب شكوك غير معلنة بشأن وجود تعاون عسكري إيراني انفصالي، صار يتأكّد مع ارتفاع الصراع ما بين الدول العربية والغرب، في قلبه الولايات المتحدة، وبين طهران، زاده التوسّع الشيعي في الشمال الأفريقي وغرب القارّة الأفريقية حدّة ووضوحا. وقد انتقل الصراع إلى جوهر وجود المغرب، أي وحدته الترابية والوطنية. وكان لضلوع حزب الله أثر الصدمة في الوسط المغربي، فقد كان هناك جزء من النخبة الذي دعم حزب الله من زاوية المقاومة الوطنية، باعتبار أن حسن نصر الله يقود حربا وطنية عنوانها تحرير الجنوب اللبناني وحماية السيادة الترابية والقرار المستقِلّ في لبنان، وهذه كلها مقومات الخطاب الوطني المغربي، ومقوّمات الأدبيات الوحدوية في المغرب. ولهذا كان لاكتشاف المغرب وجود عمل مسلح لفائدة حركة البوليساريو الانفصالية، عبر حزب الله، صدمة كبيرة، حتى لدى الأطراف التي لا تقتسم مع الدولة تحليلها الجوستراتيجي. اتفق المغاربة على أن معيار الحكم على التحالفات والعلاقات هو القضية الوطنية، وعبَّر العاهل المغربي محمد السادس عن ذلك بالقول “إن الصحراء هي النظارات التي نرى من خلالها العالم. ونرى من خلالها الحلفاء”. وبالتالي، يخضع كل شيء لشرط الوجوب هذا في بناء التحالفات، حتى التي لا تخطر على بال! .. ومن الواضح أن العلاقات بين الرباط وطهران دخلت منطقة قاتمة، بعدما استقرّ النزاع على قاعدة الوحدة الوطنية للمغرب.
*العربي الجديد