شروط النهضة في خطاب القرضاوي
ما يزال النقاش حول مواقف الفقيه يوسف القرضاوي يحتدم على نطاق واسع حول مواقفه من الثورات العربية. هذا النقاش هو تعبير عن تباين في الأفكار وهي بدورها وصلت إلينا من خطاب عربي تشكل خلال القرن المنصرم.
ترك المفكرون العرب تراث واسع يبحث عن مشكلة النهضة العربية منذ أواخر الدولة العثمانية على غرار (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، اشتراكية الإسلام، والعروبة هي الحل) وبعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الثانية وتقاسمت بريطانيا وفرنسا البلاد العربية أعاد العرب سؤال النهضة ولكن بعدما تأسس خطابين: القومية الاشتراكية هي الحل، والإسلام هو الحل، كان القرضاوي أحد الأفراد الذين نشأوا على تبني الخطاب الثاني.
يتجلى ذلك في مشروع قدمه تحت عنوان (حتمية الإسلام) وهو يعطي دلالة عن قوة تأثير القومية العربية الاشتراكية فـ”الحتمية” مصطلح اشتراكي وليس عربي إسلامي. أما القرضاوي فيقول: إن استخدامه للحتمية هي للمُشاكلة على غرار حتمية الاشتراكية، وأن الإسلام هو (الحل الفذ بعد فشل التجربة الاشتراكية واليسارية).
الهدف من هذه المقدمة توضيح أن موقف القرضاوي تجاه الثورات العربية لم تكن ارتجاليه بل هي تعبير عن مشروع منهجي قدمه في منتصف السبعينيات، وهو أيضاً تجلي عن مشروع جماعة الاخوان في البلاد العربية، وبالتالي كان له تأثير على قيادة وأنصار الجماعة حتى يومنا هذا.
سنضع قراءة لنموذج النهضة لدى القرضاوي، وظروف وضعه وإمكانية تطبيقه، وبالتالي معرفة النظام المعرفي الذي تصدر منه الحركة الإسلامية بشكل عام. وحتى لا تكون القراءة انشائية فسنورد ما كتبه كما هو.
ينطلق القرضاوي من مشكلة وصفها بالتجربة الفاشلة أي القومية الاشتراكية، وبعد تمكنه من الإمساك بهذه المشكلة وتحقق فشلها على الواقع بعد نكسة 67م يقدم لنا بديل لمشروع النهضة يتمثل بـ(الحل الإسلامي) وهو ذات العنوان وضعه لكتابه الثاني في مشروع (حتمية الإسلام). يقدم شروط لـ الحل الإسلامي أولها: ايجاد الدولة المسلمة، ومصادرها الاسلام، والاخذ بالإسلام كله، والاصرار على عنوان الاسلام، وأن يكون الاسلام غاية لا وسيلة. أما المكاسب من إيجاد الحل الإسلامي يقول: تحقيق وجودنا الاسلامي ونقيم التوازن في حياتنا ونعالج مشكلاتنا من جذورها ونكون الانسان الصالح الذي هو أساس المجتمع الصالح ونجد روح القوة في امتنا ونحفظ وحدتها والاخاء بين أبنائها ونجمع كلمة العرب والمسلمين حول راية الاسلام وتحقق الأصالة والاستقلال الفكري والعقائدي لأمتنا.
نحن هنا أمام البناء الأساسي للحل وهو (الدولة الإسلامية) وتكوينه، مجموعة من المصادر والأطر المرجعية الإسلامية، وأن الناتج عن هذا البناء والتكوين للحل هو تحقيق (الوجود وبناء الهوية الفكرية المستقلة عن الهوية القومية الاشتراكية المُعبرة عن الحلول المستوردة) كما وصفها.
بعد معرفة تكوين وبناء (الحل الإسلامي) حتى أصبح نموذجاً، يمكن لنا أن نتساءل كيف يتحول هذا النموذج إلى نظرية قابلة للتطبيق؟ أو ما هي الطريقة لتنفيذ الحل للوصول إلى نهضة عربية؟ فنحن نعرف أن النموذج يبقى كما هو مثال متخيل، إما يبقى متخيلاً في عقل صاحبه لا جدوى منه، أو قابل للتطبيق ليتحول إلى نظرية فتصبح لها معنى وفاعلية. يقول إن هناك طرق شتى: (الانقلابات العسكرية، الوعظ والإرشاد، القرارات الحكومية، الخدمات الاجتماعية)، إلا أنه في الأخير يعتبر (الطريق الفذ) يتمثل في (الحركة الاسلامية الشاملة أي العمل الجماعي المنظم المخطط).
إن الطريقة التي يقدمها لتحقيق الحل، يشترط أن تكون في إطار حركة منظمة. ولأن الحركات الإسلامية العربية المنظمة متعددة لدينا، فهو يحيلنا إلى تجربة الحركة الإسلامية التي أسسها حسن البناء وبالتالي فهي نموذج للطريق نحو النهضة.
هذه أبجديات مشروع النهضة بالنسبة للشيخ الفقيه، لكننا لكي نعرف الهوية الكُلية للمشروع سنحتاج لمعرفة ظروف وأسباب طرحه؛ لأن الهوية دائما تتشكل كردة فعل عن وجود هوية مضادة، وبلغة الفيزياء لكل فعل رد فعل.
لقد كان المشروع القومي الاشتراكي في مصر، في منتصف القرن المنصرم هو الفعل، أي الذي كان حدثاً يُمارس على الواقع وله تأثيره، وهو بنظر القوميين المشروع القابل لتحقيق النهضة العربية.
انتشرت فكرتان بعد ثورات التحرير: القومية الاشتراكية العربية، شعارها الوحدة العربية السبيل إلى النهضة، والاشتراكية الأممية، شعارها الاشتراكية الأممية السبيل للنهضة، سنأخذ الأولى لأنها التجربة المصرية الأكثر تأثيراً في البلدان العربية وبالتالي في تشكل اطروحة (حتمية الإسلام).
تتركز فكرة القومية الاشتراكية العربية، في هذه المعادلة: لكي نحقق النهضة فلابد من وحدة عربية، وما دام وأن اللغة العربية هي القاسم المشترك بينا فهي أكثر قدرة على التأثير في وجدان العربي ببديعها وبلاغتها وخيالها وإنشائها.
وبما أن اللغة لها تأثيرها على وجدان الفرد العربي، فإن استخدامها والتفنن في الشعر والخطابات والفنون هي الوسيلة الأكثر وصولا للعربي وتحويله من فرد معزول ومُستلب إلى فرد متوحد متفاعل مع محيطه العربي، كما أن اللغة هي وعاء تاريخنا المشترك. من هنا جاءت الأهمية باللغة العربية والتاريخ في طروحات المشروع القومي.
ولأن اللغة العربية مشتركة بيننا فيمكن البناء عليها لتكون أساس هويتنا الجامعة (العروبة) بالمقارنة مع الهوية الغربية وأساسها الوحدة الاقتصادية، على أن ايجاد الهوية هي مقدمة لمشروع النهضة. كيف؟
بعد إيجاد الهوية (العروبة) وتحولها إلى شعور وجداني ووعي بها بين الشعوب العربية فإنها مقدمة للوحدة الجغرافية التي مزقها الاستعمار وبالتالي فهي الوسيلة لحتمية النهضة، ولا هوية عربية بوجود استعمار اجنبي، ولا نهضة دون إعادة الوحدة الجغرافية العربية بعد تمزيقها إلى أقطار. من هنا كانت القومية في مصر تدعم ثورات التحرر العربي وتسعى للوحدة الجغرافية.
نحن الآن، أمام مشروعين احتدم الصراع بينهما لسنوات، مشروع ضرورة الدولة الإسلامية، ومشروع ضرورة الدولة القومية، لكل منهما نظام معرفي ونظريته وآليته الخاصة كما ذكرنا. ولقد تحولت مصر إلى مركز ثراء فكري لهذين المشروعين، وصلت موجات هذا الثراء إلى كل الأقطار العربية، فكلما كان القطر العربي يقترب من المركز-مصر- كانت موجاته أكثر تأثيراً.
كما أن مشروع القرضاوي الذي تركه لنا جاء كردة فعل تجاه مشروع القومية أو كما وصفه هو، ضرورة مشروع الدولة الإسلامية نتيجة لفشل التجربة القومية الاشتراكية واليسار عقب النكسة العربية 67م ووفاة جمال عبدالناصر.
ماذا عن تحقيق نموذج النهضة الذي طرحه القرضاوي؟
إيجاد الدولة الإسلامية أولاً كما جعلها شرطا جوهرياً للنهضة، تحتاج إلى طريقة لإيجاد الدولة، وقد حدثنا أن (الطريقة الفذة) هي طريقة الحركة الإسلامية كما وضعها حسن البناء، على أننا نعتبر مشروع البناء كان منفتحاً مع جميع الفرق الإسلامية بما فيها الشيعية والسلفية، وهذا يعني إمكانية تطبيق مشروع النهضة.
إن هذا المشروع النهضوي الذي وضعه القرضاوي كان ظرفه الزمني في السبعينيات، لكن حين أراد تطبيقه بالانفتاح مع إيران بعد الثورة، فشل في إيجاد حل إيجاد دولة إسلامية. إننا نلاحظ قول هذا الفشل بعد 30 سنة في كتاب يحتوي على خطاباته تحت عنوان: (صرخة القرضاوي). فالحديث عن التعاطي بوسطية وهدوء مع الآخر للاجتماع ومن ثم بناء الدولة الإسلامية، ظل هو الخطاب السائد طيلة هذه السنوات حتى وصل إلى (الصرخة) لبيان مشكلة الآخر.
لقد صار نموذج الدولة الإسلامية يواجه جمهورية إسلامية شيعية قائمة بذاتها لها مشروعها الخاص والمختلفة عن نموذج القرضاوي وصار لدينا دول عربية تمارس الحكم بالمذهب. لأجل هذا طرح القومي عزمي بشاره سؤال موضوعي: إذا لم تكن القومية هي الموحدة للعرب فبأي الإسلام يمكن أن نتوحد؟ في إشارة إلى اسلام شيعي وإسلام سني. أي أننا سنضطر إلى الجدل مرة أخرى حول ثنائية: الإسلام والعلمانية، الدين والدولة قبل الحديث عن النهضة العربية سواء بمفهوم القرضاوي أم مفهوم القوميين.
أما التجربة عن طريق الثورات العربية، فهي الطريقة التي لم تكن في حسبان القرضاوي ولا القوميين إلا أنها كانت فرصة للتغيير الذي هو جوهر خطاب الحركة الإسلامية، لكن ولأنها غير متوقعه وفي لحظة زمنية متسارعة نقلتهم إلى السلطة فقدوا القدرة على تطبيق النهضة، ووجدوا أن إيجاد (الدولة الإسلامية أولاً) وفقاً للمشروع النظري لديهم غير مقدور على تطبيقه ففشلت التجربة.
هنا يمكن للقارئ أن يتساءل، ماذا تبقى من خطاب النهضة الذي وصلنا من السبعينيات سواء من الحركة الإسلامية أو القوميين لكي نحقق تقدم حضاري؟
لا شيء. إننا نحتاج أولاً، إعادة التصورات لمشروع النهضة انطلاقاً من حاضرنا نحن كما هو، على أن الإشارة هنا إلى (نحن) تعنينا كلنا حتى نتفادى الصراعات والحروب الدامية، وأن هذا لن يحدث إلى بفعل تواصل عقلاني، لأن العقلانية هي القاسم المشترك بين الشعوب حتى وإن اختلفت مشاربهم.
**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.
*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.