نحن الآن في الجولة الأولى من الصراع المشتعل في اليمن، والانتصار لن يحسم على الأقل خلال عقد أو عقدين إذا استمرت رحى الحرب بهذه الطريقة التي تسير عليها منذ بداية عاصفة الحزم. نحن الآن في الجولة الأولى من الصراع المشتعل في اليمن، والانتصار لن يحسم على الأقل خلال عقد أو عقدين إذا استمرت رحى الحرب بهذه الطريقة التي تسير عليها منذ بداية عاصفة الحزم.
إن تأخير الحسم وكسر شوكة القوى الانقلابية يضاعف التكلفة على المجتمع وبقية القوى الداعمة للشرعية، بما في ذلك الشرعية نفسها التي باتت بلا مشروع يثق به المجتمع، والحرب التي أصبحت بلا أفق كما يبدو من سير المعارك.
منذ بداية التمرد في صعدة عام 2004م، استهدف الحوثيون ومن انضوى تحت رايتهم، ومن قدم لهم الدعم محليا واقليميا، ضرب التسوية التاريخية في اليمن، القائمة على التعايش بين الزيود والشوافع، والتسوية المناطقية التي تمت بين اليمن الأعلى والأسفل بعد ثورة سبتمبر 1962م، واستغل حالة الانهاك الذي اصيبت بها الوحدة بين الشمال والجنوب بعد حرب صيف 1994م.
لقد أراد الحوثي خلال جولات الحروب المتواصلة فرض تسوية جديدة في البلاد وذلك بتحويلها من وطن إلى كيان.
من اللحظات الأولى للانقلاب الحوثي على مخرجات الحوار الوطني وسيطرته على العاصمة ثم التمدد في بقية أجزاء البلاد، فإن الحوثي كان يدرك عجزه في السيطرة على البلاد أو الاستفراد بحكمها، لكنها مقامرة عرفتها اليمن عن الإمامة في مراحل التاريخ المختلفة، لأن هدفه يتراوح بين غايتين تكفيه واحدة منهما إن عجز على تحقيقهما معا، فهو يريد أن يصبح ممثلا لإقليم آزال والصعوبة في ذلك أن القوى القبلية في هذا الإقليم كانت عائقا على من هم أشد منه قوة، أو للزيدية الدينية، وإن لم يتمكن منهما، فممثلا للهاشميين من أبناء المذهب الزيدي.
وللأسف فقد أصبح اليوم في نظر غالبية الهاشميين من الزيود في أعالي الشمال الممثل الوحيد، بل إنه استطاع التأثير على الكثير من الهاشميين الشوافع من أبناء تعز، وتأثيره على هاشميي تعز وإب لا يأتي من بوابة الإمامة التي تعد أحد أصول الدين عند الزيدية، والتي لا تعتبر كذلك في الوسط الشافعي، إذ هي دنيوية لا أكثر، لكن الحوثية أثرت عليهم ﻷنها دخلت من بوابة الاصطفاء الذي أعلنته الوثيقة الفكرية للحوثي، والتي تمنح الأفضلية للنسب الفاطمي على من سواه، وهي رؤية تضرب العمق لمفهوم المواطنة، وتهد أسس قيام الدولة، وتحطم أحد أهم أهداف ثورة 26 سبتمبر، والعامل الذي جذب إليها اليمنيون في أصقاع الأرض من أجل الدفاع عنها والتصدي ﻷعدائها.
في العام 1983م كلفت دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة المستشرق (برنارد لويس) بإعداد تصور لوضع خارطة جديدة للشرق الأوسط، تهدف إلى إعادة تشكيل دول المنطقة على أسس مذهبية وطائفية ومناطقية، ولقد تناول المفكر الألمعي ادوارد سعيد خلال غزو العراق عام 2003، اطروحات لويس وعمل على تفنيدها والتحذير منها، وأوضح ومعه عدد من الدارسين العرب المخاطر والمآلات الكارثية لتنفيذ هذا المخطط، غير أن المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية وخبراء السياسة والمنظرين العاملين معهم لم تثنهم التحذيرات عن مواصلة مراميهم، وكانت النتيجة هي ما يجري اليوم في العراق من بروز للتيارات المتطرفة والمقاتلة.
بعد حوالي ستة أعوام من سقوط بغداد، والمقولات التي روجتها إدارة بوش حول نشر الديمقراطية في بلدان العالم العربي عبر التدخل العسكري، والحديث عن الشرق الأوسط الجديد …الخ، والتي أثبتت فشلها في العراق وقبلها أفغانستان، جاء رد الشعوب العربية في ربيع 2011م، لتعبر الشعوب عن رغبتها الجارفة في تأسيس دولة المواطنة والديموقراطية.
ولقد رافق هذا التغيير العديد من الصعوبات، وهذا أمر مفهوم في حياة المجتمعات التي تعيش حالات التحول، غير أن الخطر هو أن تفجر المذهبيات والبحث عن لافتات ما قبل وطنية، مع إطالة الصراع، قد يزيد من حدة الانقسامات داخل المجتمع، بحيث يصعب رأب الصدع والشرخ، خصوصا في ظل الضعف والوهن الذي تعيشه دول الربيع العربي، وعلى وجه الخصوص اليمن، التي تعاني من هشاشة مؤسسات الدولة منذ ما قبل الربيع العربي، ثم ما أعقب ذلك من تحالفات داخلية بين قوى النظام القديم ومليشيات الحوثي ذات القاعدة المذهبية والمدعومة من طهران، وقد حققت انقلابها على السلطة الشرعية بدعم الرئيس السابق “علي عبدالله صالح” والتسهيلات التي قدمها من خلال شبكات نفوذه وسيطرته على بعض وحدات الجيش اليمني وتحالفاته المجتمعية.
الخوف مما يجري في اليمن منبعه أن هدف جماعة الحوثي المليشاوية ذات الأسس المذهبية متوائم مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، والكثير من الدوائر الغربية، ممن ينظرون إلى الوطن العربي على أنه مجرد قبائل وجماعات طائفية ومذهبية، وما يسعى الحوثي إلى تحقيقه هو الحصول على اعتراف دولي أو اقليمي، وتحديدا من حكومة الرياض باعتباره ممثلا لفئة من المجتمع ليس على أساس سياسي وإنما مذهبي وطائفي.
ولعل السياسات التي اتخذتها أمريكا في العراق منذ احتلاله تشير إلى استعدادها لمنح هذا الاعتراف، ولا شك أن تبعات ذلك سيفتح الباب على مصراعيه في بقية دول الجوار، وستنتقل عدواه إلى البحرين والمملكة العربية السعودية، وفي الوقت نفسه فإنه سيعزز من عدم استقرار اليمن، وسيعمل على شرذمة البلد ويشجع على تفكك المناطق تباعا..
ومن هنا على القوى الوطنية في اليمن أن تستعد لما هو قادم وهو بالتأكيد سيكون مختلفاً عما ألفته البلاد خلال مائة عام بل وأكثر..