الباحثون عن السلم في زمن الحرب هم العاملون، العاملون الحقيقيون، لا الذين حولوا قضية محورية بحجم السلام إلى مصدر للرزق، أو (هاشتاغ) للادعاء والانتفاع.
العودة إلى بعض الأساسيات تشكل فرقا في أزمنة التيه، وليس بعد الحرب من تيه.. موسم الحرب والدمار بالتعاضد مع عصر مواقع التواصل الاجتماعي، وازدهار فكرة المواطن الصحفي، وأدوات الدولة التي غدت مشاعا للجميع، كل هذا شارك في إنتاج عصر القول ومزيد من القول!
ولكنه للأسف القول العابر السريع المأخوذ من العقل الحدسي التلقائي، الباحث عن كمية من الاعجاب الافتراضي العابر الذي لا يؤثر حتى بمقدار وقت القراءة فقط.. أما العمل الحقيقي الجاد فقد غدا أكثر خفوتا وتواضعا.. الدعوة إلى العمل في هذا الخضم من الوهم عودة لابد منها إلى أساسية لازمة لصنع مستقبل مغاير.
كل صباح ألتقيه يلبس زيه المدرسي، كوفية وشنطة، ومهرولا بذات الاتجاه، يمر مسلِّما وباسما، في الإعدادية كما يبدو من عمره.. في مقتبل العمر لكنه يكتب يوميا على حياتي أكثر بكثير من كل الآخرين الذين ألتقيهم.. زميلي الذي لاحظه للمرة الأولى يحكي قصة إعجابه يوميا.
قررنا على إثر هذه المشاهدة اليومية أشياء تخصنا.. لم نعرف اسمه، وهو يوميا يهرول بما لا يكفي لإيقافه، سرعته تكفيه ليلقي التحية ويبتسم دون أي توقف.. لنعمل.
على قدر هرولت سيارته ولم تتوقف إلا في أسفل المنحدر.. كان أستاذا يملأ قلب عزلة اسمها (بني علي)، وكانت النتيجة موته وآخرين، بكيت القلوب والمحاجر، وضاقت الأسطر بما رحبت، لكن مجموعة عزمت على أن تحزن بشكل مختلف، على أن يكون حزنها هذا مبتدأ لتخفيف الأحزان الصغار التي ترعى في قلب كل بيت!
أسسوا صندوقا خيريا.. جمعوا مبالغ تأسيسية، شرعوا في الدعوة إلى اجتماع أبناء العزلة كلهم باشتراكات شهرية.. وخلال فترة وجيزة كانوا قد صنعوا المعجزات في زمن الحرب والجوع والبطالة والموت المرفرف على كل الربوع.
خلال تسعين يوماً فقط، كانوا قد اشتركوا في علاج عشر حالات مرضية وبمبالغ طائلة، وأرسلوا قافلتين غذائيتين للمنطقة بقرابة 300 سلة غذائية، وبدأوا بدعم مجموعة من الطلبة في الجامعات، ويجهزون الآن لقافلة غذائية رمضانية ثالثة وصل عدد السلال فيها إلى 1700 سلة؛ ومشاريع أخرى قيد الدراسة والتنفيذ، بجهود الباعة وعمال اليومية والموظفين من أبناء المنطقة. لنعمل.
صديقا يتقن العزف على وتر الحرف، لكنه لم يستهلك نفسه منشورات على فيس بوك، هو نشيط نعم، ولكنه يفني جل وقته لينتج للقراء عملا متكاملا، فكرة يبنيها من كل الجوانب، ليردم فجوة في مسار العقل أو الروح لابد من ردمها بأياد محلية جادّة!! أو لينتج عملا أدبيا حقيقيا يستهلك من وقته ساعات في اليوم الواحد.. لأشهر كان يفني الساعات بحثا، ثم لأشهر ها هو يفنيها بناء وترميما وإعادة بناء حتى يكتمل العمل، ويشرق في الأرجاء عمل أدبي يستحق القراءة، ويرقى لأن يكون رسولا إلى المجتمعات الأخرى يعلي شأن الوطن بين بقية الأوطان.. القول على هذه الشاكلة عمل راق وفن عظيم.. لنعمل.
الباحثون عن السلم في زمن الحرب هم العاملون، العاملون الحقيقيون، لا الذين حولوا قضية محورية بحجم السلام إلى مصدر للرزق، أو (هاشتاغ) للادعاء والانتفاع.
الطالب الجاد المبتسم المهرول أظنه لبنة حقيقية في مدماك السلم الطويل.. صندوق (بني علي) بشبابه الذين جعلوا من قطرات عطائهم غيثاً عظيماً يصنعون مجتمع السلام المكتفي عن دفع أبنائه وقودا للحرب، يغرسون فسائل الخير والحب في قلب اليمن المثخن.
الفنانون والكتبة الذين يشتغلون على مشاريع حقيقية ونتاجات إبداعية ملتزمة فنياً بدقة وحرفية، يعلون شأن اليمن المسالم أمام نظرات العالم التي لا تتلقف من يمن اليوم سوى إحصاءات القتل ودوي البارود.. واحدة لابد منها: لنعمل.