لعب الفن والفنان اليمني دورا نضاليا فعالا عبر مسيرة الكفاح الوطني يتجلى هذا الدور بإسهاماتهما الفاعلة والمؤثرة المحرضة للخلاص من عبودية وبراثن كل أشكال الاحتلال الاستعماري بصوره المتعددة والمختلفة، ولا يمكننا الحديث عن الكفاح المسلح دون أن ” نعرج على الدور النضالي الذي تلعبه الأغنية الوطنية” ومفعولها القوي المؤثر في إلهاب وإشعال حماس وهمم الشعب اليمني بكل فئاته وشرائحه الاجتماعية لتقوده وتدفعه وتحرضه لحمل السلاح ضد الطغيان الغاشم ابتغاءً للخلاص منه ونيل الحرية.
العام 1962م جنوب اليمن يرزح تحت سلطة الاحتلال البريطاني، بينما الشطر الشمالي يقبع تحت جور الظلم السلالي المتستر بعباءة الدين.. تشتعل صنعاء ثورة وثوار ضد الكهنوت والاستبداد، بعد عدة محاولات ثورية غالبها تجهض او تفشل حتى تم تنظيم العمل الثوري وفق خطط واستراتيجيات وأهداف.. كل هذه المنظومة انجحت الثورة السبتمبرية في الشمال وغدت صنعاء قلب اليمن الثائر، ويتحقق الشطر الاول من الهدف الاول للثورة “التخلص من الاستبداد ومخلفاته”.. تسارع فنانو اليمن لتشكيل تفاصيل الهوية والانتماء إلى اليمن، وتوحد مشاعر ووجدان الإنسان اليمني عبر أغاني وطنية خلدت بخلود مناسبتها.. بعد اندلاع الثورة أخذت إذاعة صنعاء تسجل الأغاني الوطنية للفنانين الذين تقاطروا إليها من كل ساحة الوطن اليمني متجاوزين ظروف التشطير وواقع الاحتلال والهيمنة السلاطينية في الجنوب، سجلت الإذاعة للفنان محمد مرشد ناجي في اليوم الثالث لقيام الثورة ٢٩ سبتمبر واحدة من أروع وأزهى الأغاني المشحونة بالمعاني الإنسانية والمقارنة لما كان عليه الوضع قبل الثورة، من كلمات الشاعر سعيد الشيباني.
بالله عليك يا طيـــــر يا رمادي
تفرش جنـــــاح وتردني بلادي
من أربعــين من السنين وأكثر
أنا هنا يا طير من قريتي مزقر
قلبي قنع يا طير رضى بما تقدر
لا عــــاد شكا همـــه ولا تحسر
صــــوت المــــــذيع بكر يدق بابي
مثل الصباح يا طير أعاد لي شبابي
يعلن على الدنـــــــــيا على الروابي
شرع السماء يا طير وحكمنا النيابي
أنا فدا الســـــلال فدا بـــــلادي
من الحسن والبدر حرر بلادي
أنا فدا صنعـــــاء فدا بــــلادي
فدا حقــــول البن في كل وادي
صدح صوت محمد مرشد ناجي بهذه الأغنية ما إن يتذوقها المستمع حتى يرتفع ادرينالين الوطنية الى أعلى مستوى، مبتدئاً بنداء الطير الرمادي ليحمله على جناح السرعة للحاق بركب الحدث الذي أفنى عمره من اجل أن يتحقق.. نداء الشوق للوطن الذي لا شيء يعشق كإياه وهذا ما اندمغت به روح اليمني وامتزجت فيه، في القاهرة –قبلة احرار العرب آنذاك- ومنذ أربعين عام من الانتظار والترقب لفجر الوطن المشرق والحدث المعجز وبعد الصبر الطائل والقنوع والرضى بلا شكوى أو تضجر أو تحسر مما حدث في الوطن المدنس بالاحتلال والاستبداد حتى أشرق صوت المذيع في صباح لا كالصباحات النافقة.. صوت كحبيب منتظر يطرق الباب ليعيد بطرقاته تلك حيوية الشباب بما حمله وأعلنه للدنيا أجمع باسترداد ما هو حق الشعب المغلوب.. “شرع السماء، الحكم النيابي” لم تكن المطالب أكثر من هذا أيها الطير لكن الطغيان استكثره واستنكره وما يستنكره الطغاة يجتثه في النهاية.
في أخر الاغنية يختتمها بالفداء للبلاد وللثورة ممثلة بعاصمتها صنعاء شاحناً كل الأغنية بالرمزية التي تمثل هوية الوطن الحقيقة التي تستحق الفداء والتضحية من اجلها.. صنعاء الثورة.. البن ماركة الشهرة العالمية لليمن وعنوان فخرها.. السلال رمز الثائرين الذين حققوا الحرية لشعب رزح في نير الظلم والتعسف احقاباً من الأزمنة في جحيم حسنها وبدرها وأمثالهم الغابرين.
حين يستمع السامع لها تتقاطر وتتكاثف الاسئلة في المخيلة متسائلاً.. كيف يتغنى هذا الفنان بكل هذا الكم من التفاخر والتباهي بثورة شعب لا ينتمي إليه -حسب جغرافية الوطن آنذاك!؟.. فيجيب السامع سؤاله بأن هذا الشعور ليس إلا من أجل التعريف والتوضيح بواحدية الجغرافيا ووحدوية الشعب وعمق التكامل الوطني والتأكيد على قوة الترابط والتكافل الاجتماعي بين افراد شطري الوطن الذي مزقه وقسمه واقع الحال تحت سياسة السلطات العنصرية في الجنوب المحتل بريطانياً والشمال المطمور سلالياً.. وكلا السلطتين مفتونة بالقمع والبطش وزرع الفتنة والفرقة بين بني الشعب الواحد.
كما أن هذا اللهج والشغف المنبعث من الاغنية يعبر عن التفاؤل والبشرى بقرب نهاية المعاناة الجنوبية وهي دعوة لمد يد العون من صنعاء لشقيقتها عدن وقد عزمت صنعاء الثورية على التحرر من الاستبداد والاستعمار وازالة مخالفاتهما وكان هذا هو البند الاول من اهداف ثورة وثوار اليمن الحر الواحد…
ثم يتجه السؤال منحنى اخر مقارناً بين فن فناني زمن النضال الجميل وأدعياء الفن في زمن الارتزاق.. بين فنان مثقف وفنان لا يفقه ما يقول!!!!