عندما يخنق الماضي الحاضر ويعيق المستقبل, فعلينا البحث العلمي في ذلك الماضي, لنقوم بعملية مراجعة, تصون تجاربنا الحالية, ومسار المستقبل, من أخطاء وجرائم ذلك الماضي.
مشكلتنا في هذا البلد الوعي, عملية مراجعة الماضي هي بحد ذاته عملية وعي , تتشكل بعد معاناة, و الوصول لقناعات مراجعة حقيقية, وعي يدفع بكل القوى السياسية المعنية بأحداث الماضي للاعتذار, ولن يكون لذلك الاعتذار صداه دون أن تتضح الصورة الحقيقية, بعملية تسمى عدالة الانتقالية .
برنامج المتحري من قناة الجزيرة للمليكي, فضح حقيقة هذا الوعي, حيث ذهب البعض لرفض نبش الماضي, واعتبرها فتنة , وذهب اخرون في اتهام القناة بأنها غير محايدة, ولماذا لا تنبش في ماضي خصومهم.
مما يوحي أننا في بلد لازالت الصورة الذهنية للماضي تصنع احداث اليوم, ولازال البعض يعيش حالة اغتصاب السلطة, ويعيش حالة الثأر والانتقام, وهي الحالات التي لازالت تقدم للعنف مبررات بقائه, والقتل أسبابه, ولازالت تسفك الدماء وتزهق الأرواح البريئة, ولازال العدل بعيدا عن اذهان وعقول تلك الحالات .
الصورة النمطية التي تحتل عقل الماضويون, ترفض الحاضر, وتعيق المستقبل, فهي تحفز لديهم حالة الثأر والانتقام وتصفية حسابات ذلك الماضي بعيد عن الحق والعدل, صورة تريد ان ترسم مستقبل ينتصر لذلك الماضي .
نعم نحن نحتاج ان ننبش في ماضينا, واحداثه المأساوية, بعقل متحضر ووعي قابل للتغيير والتحول لمستقبل خالي من كل منغصات ذلك الماضي , نحن بأمس الحاجة لعدالة انتقالية تحقق عدالة اجتماعية .
الرافضين البحث بأحداث الماضي, هم المجرمين, هم من لا يريدون ان تتضح الحقيقة, ولا يريدون عدالة انتقالية, ولن يسمحوا بعدالة اجتماعية .
كنا نتمنى من المتحري ان يحفز مطلب الجماهير بتحقيق العدالة الانتقالية, لإرساء عدالة اجتماعية , ونرى المتسببين بتلك الأحداث المأساوية , يتحدثون بندم واعتذار للناس, يطيبون خاطر أولياء دم الضحايا, و يفككون مشكلات الماضي , للبدء بحاضر خالي من منغصات ذلك الماضي لولوج مستقبل آمن واجمل .
عدن هي ساحة تلك الاحداث المأساوية, وهي المتضرر الأكبر, ولازالت تدفع الثمن, لو نظرنا لحالها قبل تلك الاحداث وما بعدها, منذ 67م وعدن تتعرض في كل منعطف صراع دموي لتصفية كوادرها وكفاءاتها وتدمير مقوماتها, بل تدمير إرثها الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي, تدمير لخصوصيتها, واستهداف ريادتها لتكن مجرد تابع مستسلم لسلطة وعنجهية وعصبية وقبلية وقروية, فتحولت من مدينة رائدة في كل المجالات, ومركز اقتصادي وميناء عالمي, وفسيفساء اجتماعية رائعة بكل أطيافها, وايقونتها المدنية , كانت فخرا وامل للأخرين , اليوم حالها لا يسر الناظرين .
اليوم عدن مدينة أشباح العنف والعصبيات, مدينة تستباح وتنهب, مدينة يقتل فيها الجمال ليعيش القبح , وتسفك فيها الدماء طمعا بسلطة لغير المؤهلين لها .
ولن تخرج عدن مما هي فيه, دون مراجعة حقيقية للماضي الأليم, والبحث العلمي بتجارب فاشلة, يجب ان تتوقف اليوم , وغير صالحة للمستقبل, المستقبل المعاق من ذلك الماضي وأدواته الرثة, التي تريد ان تحكم بالبندقية , وبكل غباء وبجاحه, نسمع عدن حقنا, في معركة عدن هي الضحية الأولى فيها, بما يعني أن العقل ضحية الجهل, والتحضر والتقدم ضحية التخلف, والمدنية ضحية القروية , والأفكار ضحية العصبيات، ومعركة تعطيل النظام والقانون, أي أنها معركة القبح على كل ما هو جميل في عدن, التي تنتظر عدالة انتقالية لترسيخ دولة وتحقيق عدالة اجتماعية .