وعلى الرغم من تصاعد وتنامي عمليات التهجير التي طالت العشرات من اليهود اليمنيين في السنوات الماضية، منذ صعود نجم الحوثيين في المشهد السياسي، الإأن العملية الأخيرة وتوقيتها كشف المستور عن وجود صفقة ما قد أبرمت، من خلال دلالات مراسيم الاحتفاء التي أقامها الكيان الصهيوني. لم يكن إعلان دولة الاحتلال الصهيوني، منتصف الأسبوع الماضي، 21 مارس/ آذار 2016م، عن تمكنها من نقل 19 يهودياً يمنياً من بلادهم إلى الأراضي الفلسطينية، سوى فصل جديد من فصول مسلسل طويل بدأ برعاية المنظمات الصهيونية في القرن المنصرم لـ تهجير “يهود اليمن” ونقلهم إلى دولة ” إسرائيل” المزعومة.
غير أن عملية التهجير هذه المرة، والتي أثارت استهجاناً سياسياً واستياءً شعبياً يمنياً واسعاً، ألقت بظلالها على واقع ما تعيشه اليمن، وحملت في طياتها أبعاداً مختلفة لعل من أهمها المفاوضات السرية والغامضة التي عقدها الأمريكان في مسقط مع ممثلين عن جماعة الحوثي والرئيس السابق صالح، مع حديث الصحافة الإسرائيلية عن كون المجموعة التي هُجَّرت هي “آخر ما تبقى من يهود اليمن الذين أبدوا رغبة في مغادرة البلاد”.
وعلى الرغم من نشر موقع “معاريف “، وصحيفة “هآرتس”، جزءاً من تفاصيل العملية التي وصفت بكونها “عملية سرية ومعقدة” وأشرفت عليها الوكالة اليهودية بالتنسيق مع وزارة الخارجية الإسرائيلية، ووزارة الخارجية الأميركية، وهيئات حكومية أخرى، ودول في المنطقة لم يسمها؛ فإن تساؤلات عدَّة برزت حول كيفية انتقال المجموعة التي تم جلبها وترحيلها من صنعاء قبل نقلها إلى داخل كيان الاحتلال الصهيوني.
وقد تركزت تلك التساؤلات، حول ما إذا كان هناك أي تفاهمات من نوع ما قد جرت وصفقة قد أبرمت من قبل الأمريكان ودولة الاحتلال الصهيوني مع الرئيس السابق صالح والحوثيين، الذين أصبحوا عملياً سلطة الأمر الواقع حالياً في اليمن، عقب سيطرتهم على العاصمة اليمنية صنعاء في 21 سبتمبر 2014م.
وبالنظر إلى تفاصيل هذه العملية، فقد تشابهت إلى حد ما مع عملية (بساط الريح). أو كما يطلق عليها في الغرب (عملية على جناح النسر)، كانت الأكبر والأولى من نوعها حين نفذت الوكالة اليهودية عملية تهجير سري نفذتها لترحيل نحو 49 ألف يهودي، ويقال (53 ألفا) من يهود اليمن إلى إسرائيل في الفترة من حزيران (يونيو) 1949 إلى أيلول (سبتمبر) 1950 على متن طائرات أميركية وبريطانية عبر مدينة عدن. وبلغت تكاليف هذه العملية حوالي 425 مليون دولار.
وتقول مصادر إن اسم عملية (بساط الريح) أتى من فقرتين من العهد القديم وهي: “أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين. وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إلي” (سفر الخروج: الإصحاح 19 الفقرة 4). أما الثانية: فهي الفقرة 31 من (سفر إشعياء النبي: الإصحاح 40): “وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ”.
وتعد هذه العملية (بساط الريح) أولى وأشهر عملية تهجير لليهود اليمنيين نُفذت بتواطؤ ودعم نظام الحكم الإمامي، الذي كان قائماً في شمال اليمن (يُعتبر الحوثيون امتداده السياسي إلى حد ما). وكانت تقارير رصَدت وسرّبت يومها أن للإمام أحمد بن حميد الدين إمام اليمن الراحل في ذلك الوقت دور لوجيستي ومباشر في العملية، عندما قدم العون للتاجر اليمني أحمد القريطي المكلف من قبل الوكالة اليهودية لتجميع يهود اليمن وتسوية بيع ممتلكاتهم.
وتحصل نظام الحكم الإمامي إزاء نجاح عملية (بساط الريح) آنذاك على الدعم الإسرائيلي لقوات الإماميين، الذي بدأ عبر وساطة المخابرات البريطانية «إم آى 6»، وكانت أحد أكبر الداعمين لنظام الإمام بدر، إلى جانب بعض الدول العربية، كما يقول المؤرخ البريطاني كليف جونز فى كتابه «بريطانيا والحرب الأهلية اليمنية 1962ــ 1965».
وبحسب تقارير عدة، فإن” تل أبيب “حشدت لهذه العملية المسماة بـ«الصلصلة»، أكبر طائرة نقل في سلاح الجو الإسرائيلي في ذلك الوقت، وهي من طراز «ستارت كروز». وبعد تدريبات استغرقت ثلاثة شهور، وفى الحادي والثلاثين من مارس 1964 أقلعت من قاعدة تل نوف أول طائرة إسرائيلية تحمل معدات وأسلحة عسكرية وأغذية ومواد طبية. وخلال العامين التاليين أرسلت إسرائيل 13 رحلة جوية إلى اليمن، وكانت آخر رحلة في الخامس من مايو 1966.
ومن الملفت للنظر أن اليمن لم تشهد عمليات تهجير لليهود سوى في عهد النظام الإمامي، ومع صعود نجم الحوثيين في المشهد السياسي اليمني، بعد توقف دام أكثر من 50 عاماً من قيام الجمهورية وسقوط نظام الإمامة الكهنوتي صبيحة يوم 26 من سبتمبر/ أيلول 1962م، فقد تحولّت قضية اليهود اليمنيين إلى قضية قومية ترفض الحكومات المتعاقبة تهجيرهم، ومع ذلك استمرت المحاولات الصهيونية باستقطاب الأسر اليهودية اليمنية، لتعود وتزدهر في السنوات الأخيرة.
وتعد عملية نفي الحوثيين في يناير/ كانون ثاني، مطلع العام 2007م للمئات من العوائل والأسر من اليهود القاطنين بمنطقة الحيد وغرير بآل سالم الواقعة في مديرية كتاف بصعده شمال اليمن، نقطة البداية وحجر الزاوية لمتوالية عمليات التهجير التي طالت اليهود اليمنيين، إثر اتهامات الحوثيين لهم بنشر الرذيلة في المنطقة، وهي الاتهامات التي لا تعدو أن تكون مجرد ذريعة للتغطية على عملية التواطؤ مع الكيان الصهيوني لتهجيرهم.
ومنذ تهجير يهود “آل سالم” في صعده شمال اليمن من قبل الحوثيين، انتقلت العديد من الأسر للإقامة في “المدينة السكنية” الخاصة، وهي منطقة سكنية مغلقة تحت حماية السلطات، واستؤنف على إثرها نشاط الهجرات الجماعية الصغيرة لليهود اليمنيين في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد قيام الحوثيين بعمليات الإيذاء والطرد الممنهجة لهم في محافظتي صعده وعمران، وصولاً إلى آخر من تبقى من أتباع هذه الديانة، هناك حيث استقر بهم المقام في مجمع عسكري قريب من السفارة الأمريكية بصنعاء.
وعلى الرغم من تصاعد وتنامي عمليات التهجير التي طالت العشرات من اليهود اليمنيين في السنوات الماضية، منذ صعود نجم الحوثيين في المشهد السياسي، الإأن العملية الأخيرة وتوقيتها كشف المستور عن وجود صفقة ما قد أبرمت، من خلال دلالات مراسيم الاحتفاء التي أقامها الكيان الصهيوني على خلفية وصول مجموعة أفراد من اليهود اليمنيين وبحوزتهم مخطوطة قديمة من “التوراة” تعود إلى قبل ما يقارب 600 عام، واعتبار ما جرى “لحظة هامة من تاريخ إسرائيل”.
وقد تطابقت الكثير من الشواهد والتحليلات، ونشرت تقارير عدَّة حول وقوف الحوثيين وتواطؤهم خلف نجاح هذه العملية الأخيرة، حيث شملت الصفقة وفق مراقبين تسليم اليهود اليمنيين مع المخطوطة من ” التوراة “، التي تعد ملك خاص للدولة والشعب اليمني، مقابل دعم الحوثيين في المحافل الدولية، وتمت الصفقة برعاية أمريكية.
وفيما نقلت مصادر عن متحدث باسم منظمة الهجرة والجوازات التابعة للكيان الصهيوني: “إن إجراءات تنفيذ العملية قد استغرقت أكثر من عام”، فقد كشفت مصادر محلية يمنية وأفاد مراقبون:” أن عمل على الأرض قام به ناشطون يهود من جنسيات متعددة تحت غطاء المنظمات الدولية الإنسانية والإغاثية، بالتنسيق مع منظمات مجتمع مدني يمنية “، يعتقد أنها تابعة للحوثيين، كل هؤلاء استماتوا في إتمام هذه الصفقة، التي أراد من خلالها الحوثيون البرهنة على أنهم شركاء مناسبون في المنطقة.
ولعل هذا هو التفسير المحتمل وراء انخراط تلك المنظمات في حملة علاقات عامة لصالح الحوثيين في الغرب، للقيام بحملة تشويه مُتعمّدة لدور التحالف العربي وخصومهم السياسيين في اليمن، ما يعني أن هجرة اليهود الـ 19، كانت نتاج صفقة ذات طابع سياسي واضح، أبرمها الحوثيون بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وجاءت في سياق التوظيف الرخيص لورقة إنسانية، ساهموا هم في صناعة مأساتها منذ البداية حتى يظهروا لليمنيين أنهم قولا وعملاً ضد إسرائيل وضد اليهود، فيما هم خلاف ذلك.
وعلى الرغم من حديث “صحيفة يديعوت احرنوت “وبعض وسائل الإعلام العربية حول ماهية الصفقة، وتصريحها أن السلطات في ” تل أبيب ” قد دفعت أموالاً للحوثيين، وما تحدثت به وسائل إعلامية أيضاً عن تزويدهم بالأسلحة فإن الصفقة في واقع الأمر قد أبرمت ولكنها ليست مجرد بيع وشراء وأموال تقبض، بل حالة التخادم هي الأظهر وإلى الواقع أقرب بين الكيان الصهيوني وأمريكا والحوثيين، فيما لو استحضرنا الجانب السياسي غير المرئي في سياقات مفتوحة ومتعددة.
وتبدو صيغة التسوية المزمع إقرارها في اليمن، من خلال ممارسة الإدارة الأمريكية بكل ثقلها للضغوط المتوالية على دول التحالف العربي والحكومة الشرعية لإعادة إنتاج حلف المليشيا (صالح والحوثيين) في مشهد السلطة القادم، كـ ثمن لعملية تسهيل تهجير آخر العائلات اليهودية من اليمن، وإرسال أقدم مخطوطة يمنية لـ ” التوراة “، تعد المخطوطة الثانية بعد تلك المخطوطة التي أهداها الرئيس السابق صالح لإسحاق رابين، رئيس دولة الاحتلال الصهيوني في منتصف تسعينيات القرن الماضي.
ومن حيث الجملة، فإن عملية تهجير اليهود اليمنيين، وتورط الحوثيين والرئيس السابق صالح في عملية تنفيذها لتؤكد في واقع الأمر حالة التخادم وخطوط العلاقة وقنوات الاتصال مع الغرب والعالم الخارجي، وهوما يؤكده وفسّرته حالة وأوضاع اليمن، فالانقلاب الذي أقدم عليه حلف الميليشيا جاء بتشجيع أمريكي، لدفع اليمن والمنطقة إلى حالة احتراب تأخذ صيغة طائفية، وتمهد لتقسيم ما هي من وضعت خرائطه.
وليس بمقدور واشنطن على الرغم من استطاعتها نفي فتح خطوط وقنوات اتصال مع الجماعة المعادية لها بالشعارات، والتنسيق معاً في إطار ما يُعرف بـ ” التعاون لمكافحة الإرهاب”، أن تنفي رعاية صفقة التهجير الأخيرة لليهود اليمنيين وإرسال المخطوطة من ” التوراة “، كشاهد عملي على وقوفها خلف دعم وتبني الكيان الصهيوني، الأمر الذي حدا برئيس الوكالة اليهودية، ناتان شارا نسكي، اعتبار ما جرى “لحظة هامة من تاريخ إسرائيل”.
وبوصول 19 تسعة عشر من يهود اليمن منتصف الأسبوع الماضي إلى مستعمرة الكيان الصهيوني، وبحوزتهم مخطوط من أقدم نسخ التوراة عمره قرابة 600 عام، يمكن القول إن تاريخ يهود اليمن غادر البلد الذي يصفه بعض المؤرخين بأنه أحد أقدم موطن لليهود.
غير أن ماهية وجود “اليهود” في اليمن ماتزال غير معلومة، كون وجودهم فيها قديم وتضاربت الروايات حوله، بين رواية اعتناق أحد ملوكها التبابعة لليهودية إثر لقاءه بحبرين من اليهود في يثرب، حين غزاها قبل بعثة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ورواية أخرى تقول إنهم من بقايا القبائل اليمنية التي اعتنقت اليهودية مع الملكة بلقيس.
فيما يطرح اليهود اليمنيين عن أنفسهم، رواية مغايرة لما سبق مفادها: “إن النبي ارميا أرسل 75,000 شخصاً من سبط لاوي إلى اليمن”، وفي الجملة تظّل هذه الروايات عند التحقيق مجرد تخمين لأن سبب وجود اليهود باليمن لا يزال غامضاً ولم يتم كشفه وبيانه.
*كاتب وباحث يمني