لدى كل الأطراف بدون استثناء، تلك النوعية من الأتباع الذين لا يريدون إيقاف الحرب جراء وهم الحسم مثلاً، أو لحساباتهم الاخرى المختلفة، ما يعني أن كل الأطراف ملزمة بخطاب تدريجي باتجاه سلام ضامن- في حال بدأت تقر فعلاً لا قولاً بعدم جدوى عبثية الحرب. لدى كل الأطراف بدون استثناء، تلك النوعية من الأتباع الذين لا يريدون إيقاف الحرب جراء وهم الحسم مثلاً، أو لحساباتهم الاخرى المختلفة، ما يعني أن كل الأطراف ملزمة بخطاب تدريجي باتجاه سلام ضامن- في حال بدأت تقر فعلاً لا قولاً بعدم جدوى عبثية الحرب- كونها حتى اللحظة ما زالت تحشد للقتال وترسل المقاتلين للجبهات.
إن هذا أمر مفروغ منه ومقبول حد السخط والشفقة معاً، خصوصاً في ظل خوف هؤلاء من القادم، أو لمحاولات تأمين مصالحهم التي يحوزون عليها كعصابات لا كمواطنين، فضلاً عن ما يفعله عصابهم النرجسي من اجراءات حمائية وتصورات تحشيدية ضد السلام بالمقابل؛ وكذا ما كرسه الصراع السياسي المنحرف ثم الصراع المسلح البغيض من انتشار سلوك انعدام الثقة والنزعة الثأرية في المجتمع والأفراد، ما بالكم بأطراف الصراع نفسها أو بأطراف داخلها أيضاً.
والشاهد أن الجميع يخسرون في استدامة هذه الحرب الملعونة بشقيها الداخلي والخارجي، بل وتزداد الخسارة في حال لم تؤدي إلى السلام النوعي والناضج.
لكن الأكثر خسارة بعد كل ما تم من مغامرات ومقامرات فادحة وفجة بحق اليمن واليمنيين هم الأبرياء الذين مستهم حرب الانقلاب والشرعية بمنتهى الجنون والقسوة، آخذين في الاعتبار شتى صنوف ذرائع التبريرات الصادمة التي رافقت الانتهاكات ضد المدنيين.
ثم أن الحرب هي الشيء الوحيد الذي يستحق أن ينال حقدنا، في حين ليس أوسخ ما في الحرب أنها تلهو بتدمير البشر فقط، وإنما في أن تجعلك تمارس الحقد حتى على السلام كذلك.
أما وأن البلاد تندفع إلى الهاوية المحققة، بينما موبقات الحرب تطارد الجميع ككوابيس منفرطة لا تنتهي، فإنه لابد من تعزيز مساعي السلام العادل لا غيره.
والحال أنه لا يمكن الوصول لأرضية سلام قوية دون إيمان متصاعد من قبل القوى المتقاتلة بضرورة خارطة سلام استراتيجية للاستقرار، وإعادة البناء وجبر الضرر وصنع التحول التاريخي الفارق.
فالثابت أن زمان اعتبار السلام تكتيكاً عابراً وخادعاً -يفضي إلى أن يكون مجرد جولة لاستئناف الحرب- قد ولى وإلى الأبد.. أو هذا ما يفترض.
لكن من أبسط نتائج مرحلة سحق وتجريف الضمير الوطني، أن مشكلة السلام الكبرى تبرز عندما يتعامل معه أمراء الحرب وفق مبايعات “شور وقول”، وهو الذي يجب أن يبنى على اتفاقات جادة تحدث انفراجات وطنية مأمولة وتضميدات ناجعة للجروح المفتوحة واستقرار نهضوي منشود.
وعليه فإن من ينتعشون ويزدهرون في ظل الأوقات العصيبة التي تمر بها اليمن جراء الحرب هم أكثر الذين سيعملون لإزهاق كل بوادر للسلام قد تلوح في الأفق.
والأرجح أنه بمجرد الإجماع العقلاني على إيقاف الحرب، واستعادة الدولة واستئناف السياسة ومعالجة التداعيات والآثار، من خلال الدفع المستمر بجهود تعزيز السلام كمنقذ أخير للبلد وكمحقق فاعل للمصالح الوطنية الجامعة، فإنه لابد بالمقابل أن يتطور مفهوم السلام من منحاه اللاحربي أو الاستسلامي فقط، إلى المنحى السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي والقضائي والتربوي والإنساني الخ – مع ضرورة الالتزام الكلي لأطراف السلام في الداخل والخارج بتجريم وعدم إتاحة التفرد والتسلط عبر قوة السلاح المنفلت حاضراً ومستقبلاً -مروراً بالعمل الجاد –بعيداً عن التحيزات اللاوطنية الصغيرة والأنانية –لتحقيق شخصية الدولة التي تحتكر القوة ويسودها القانون لتفرض حقوق جميع ضحايا الحرب عبر آلية ملائمة تقع في صلب توجهات السلام نفسه، وبموجب القانون الدولي، كما من أجل المصالحة والإنصاف وتجاوز تركة الماضي التي لا أوجع منها في ذاكرة المجتمع.
مالم فإن فقدان تلك التدابير-التي تحتاج إلى أرواح كبيرة وعظيمة لإقرارها – سيؤدي بالضرورة إلى صراعات عنفية جديدة كما سيولد مزيداً من غياب الثقة داخل المجتمع وتكويناته ومؤسساته، وكذا في مؤسسات الدولة ورمزيتها المتبقية.. وهذا هو الأخطر.
لكن ما الذي يتبقى من الوطن حين يتحول نصفه إلى قتلى ونصفه الآخر إلى قتلة؟ “بالتأكيد تتبقى المقابر والهاربين ولا شيء غير ذلك للأسف”.
ولذلك نكرر أن ملف السلام أثقل من ملف الحرب، فالسلام يحتاج إلى شجاعة وشفافية ذات مسؤوليات تاريخية كبرى، وقبل كل شيء يتطلب بيئة وقوى مؤمنة بالسلام فعلاً لا قولاً. فمهما استمرت الحرب وشرورها وأوهامها لا تستطيع أي قوى اجتثاث قوى اخرى بالحرب، كما من غير المعقول أن يكون السلام على حساب أي قوى أيضاً؛ بل إن السلام لا يتحقق من دون إتفاق الجميع على ضرورة تجذير قيمة السلام بأصالة داخل المجتمع أولاً.
على أن السلام الضامن هو الذي لا يدخل سوق الشعارات والمزايدات والمراوغات، وإنما باعتباره الحامل الموضوعي لقيمة السلام التي تنبع من الداخل قبل الخارج مستوعبة حقاً لمعاناة الناس الهائلة كما للمصالح الوطنية الجامعة بعيداً عن الحسابات المأزومة والخاطئة والمغامرة التي لا ترى حلولاً سوى في استمرار الحرب.
فالحرب ستتوقف يوماً، غير أن السلام الحقيقي في اليمن لن ينجز شيئاً فاعلاً إلا بضمانات واتفاقات تاريخية لوقف الثارات والانتقامات ودعم اسر الضحايا وتعويض المتضررين والإفراج عن المعتقلين والالتفاف حول صيغة إجماعية تجعل السلاح غير منفلت وبيد الدولة مع إطلاق عملية شاملة وجادة -مدعومة اقليميا ودوليا- لإعادة الإعمار ودعم الاقتصاد المنهار وتفعيل العملية السياسية والايفاء بالالتزامات العالقة ومكافحة الارهاب واستئناف المرحلة الانتقالية.. الخ.
ثم إن من أبسط كوارث عبثية الحرب الطويلة المدى وهي تكرس وتفرض مشاكل عدم الاستقرار والاصطفافات المناطقية والطائفية وتعميم شتى مظاهر الدمار والخراب وسحق مفهوم الدولة نهائياً، إنها تنتج بالمقابل حشداً لامعقولاً من المآزق والقضايا والتحديات المعقدة والصعبة التي تتطلب استحقاقات وطنية وأخلاقية فارقة تصبح من شأنها هي وحدها -لاغيرها- وضع المعالجات الناجعة وإعادة الصواب اللائق والمنشود للحاضر وللمستقبل.
ولئن كانت غاية السلام تجنب تجدد الصراعات المسلحة وإزالة آثار التشظي والتفتت وتمزق النسيج المجتمعي ومختلف ويلات العنف، إلا أنه منظومة متكاملة لا تتجزأ أساسها العدالة واحترام العقد الاجتماعي وصولاً إلى سد الثغرات التي توسعت بسببها الميليشيا وانقسم الجيش كما تغلغل منها الارهاب كذلك، وليس الاكتفاء بمظاهر الزيف الخارجية لما سيتم تلفيقه على أنه السلام مثلاً، لنكتشف سريعاً بأنه لا يمثل أي إضافة تؤهل لنجاة المجتمع والدولة، وبالتالي سرعان ما يؤسس لحرب أخرى أشد فداحة ومقامرة من سابقاتها.
والحال أن السلام بمفهومه المتسع والشامل هو التحدي الأكبر في تجارب الانتقال من العنف إلى التسامح ومن تطييف الصراع إلى الديمقراطية ومن الحرب إلى السلام. السلام الذي تغتاظ منه الأرواح الصغيرة والمشوهة والمأزومة بمجرد أن يكون كما ينبغي باعتباره السلام الذي تتبعه جهود حقيقية مبذولة كي نرتقي فعلا إلى مصاف السلام.
ذلك السلام الذي يسمو ويدوم لأن أطرافه لا يراوغون أو يتنصلون عن التزاماتهم المنطقية، فلا يكون السلام سلاماً وفي ظله يتم قمع حريات التعبير، وخصوصاً من يعترضوا على السلام ما داموا يمارسون حقهم الدستوري بسلمية ومدنية لمراقبة وترشيد وتقوية الأداء العام.
وما نأمله جميعاً بالطبع هو السلام الذي يزيل التمييز والتهميش ويوفر الفرص العادلة ويعالج المظالم كما في السياق يزيل عناصر التوتير والتأجيج من واجهة القرار ولو تدريجياً.
السلام المحمول بشجاعة وطنية كبيرة تقر وتعترف بتحديات التسلط والاجرام والفساد باسم السلطة، عوضاً عن مشاكل الاقصاء والميليشيات والارهاب وعدم تحقق جيش وطني منذ عقود ومن يوظفون الدين والمناطقية في السياسة.. على ألا يتيح فرصة لتكرير نمط تفكير كل من فكروا أو مازالوا يفكرون بتقاسم اليمن كغنيمة حرب أو بمعالجة الأزمات المتراكمة بأزمات فوضوية جديدة كما كان يحصل بعد كل مرحلة حرب للأسف بدلاً من معالجة – وعدم تكرار- آثام الماضي بكل مستوياتها.
السلام كمدخل أساسي للإصلاحات الواجبة لتعزيز بناء دولة القانون والمؤسسات بصفته السلام الذي يهدف لإنقاذ كيانية الدولة ومؤسساتها من المصابين بداء الغصب والتفرد وهو الداء المتأصل الذي يمثل أصل العلل اليمنية كلها إذا جاز التعبير.
السلام الذي لا يترعرع فيه كل من يستغل الوظيفة العامة لمصالحه الخاصة أو من يشغلها بدون استحقاق جراء النفوذ والهيمنة. بل السلام الذي ينبغي أن يضع حداً لمن يشغل استحقاقات غير مشروعة أو مزدوجة بدون وجه حق. كما يمنح القضاء والرقابة والمحاسبة كامل الصلاحيات لتصحيح الأخطاء واستئناف العدالة وإعادة الاعتبار لمعركة اليمنيين الحقيقية ضد الفساد والتخلف والتطرف.
سلام التنمية بمختلف مستوياتها، وسلام التحديث والدمقرطة والحقوق والواجبات المتساوية. السلام الذي لا يغفل أهمية استيعاب قوى المجتمع التي لم تتلوث بالصراعات كقوى جديدة لرفد السلام.
السلام الذي ينشر ويحقق ثقافة سلام مجتمعية واسعة وحضارية تتسق تماما مع اداءات الدولة المطلوبة للسلام. السلام القائم على المسؤولية الشاملة كحجر لزاوية المرحلة الجديدة المأمولة هو ما ينشده الشعب باختصار.
أما ذلك السلام الذي يقضي بتحاصص الأقوياء للسلطة كيفما اتفق -وبنفس الآليات القديمة التي قادتنا الى كل هذا البؤس والخراب والكلفة- مع استمرار تحويل الشعب إلى مجرد رعايا أو رهائن لأمزجتهم ما قبل الوطنية، فإنه لن يسفر بالمحصلة سوى عن لعنة الشعب الخالدة باتجاه من اقروه كسلام، وهم لا يحيكون عبره إلا مكائدهم الجديدة أو المؤجلة فقط.
***
قتل
ذعر
خراب
حياة ضئيلة
كلفة بشرية واقتصادية
فائض من العنف
تبريرات متبادلة
انعدام امن
تصاعد الانتهاكات ضد المدنيين
نزوح
تشرد
عوز
ثأر
عذابات لا يمكن احتمالها
فرز طائفي ومناطقي
وحش الارهاب المترامي الأطراف يتعقب الأحلام الصغيرة
قدر مجهول
وإذاً:
ماهي أهداف الحرب؟ وماهي أهداف السلام؟
ثم كيف نهرب من ذاكرة الحرب وجنونها ومآسيها؟
وكيف سيكون السلام العادل والرادع والملزم؟
فالأنكى أن من يستسهلون الحرب ويغذونها ويبتهجون ببشاعتها يحدث أن يتحاورون من أجل السلام لكن بدون اقتناع حقيقي أو إرادة فاعلة!