كتابات خاصة

مهن تشع الوجدان

عائشة الصلاحي

 ما فائدة أي نجاح مهني حين تكون قد فقدت انسانيتك وبشريتك، فلا أحباء ولا دين ولا هوية ولا وطن تأوي إليهم! وتذكر دوماً أنك أنت من يملك المهنة، فلا تسمح لها أن تملكك تحت أي مبرر أو قناع؛ ﻷن ﻻ شيء بعد ذلك سيبقى ذا قيمة في حياتك. تحكي إحدى الاساطير أن مقاتل حكيم كرس نفسه لحماية شعب قريته من خطر الوحوش المخيفة التي كانت لا تكف عن مهاجمتهم في عصر مليء بالظلمة والدموية.
كان المحارب قوياً إلى تلك الدرجة التي حفظت شعبه بأمان وجعلت الوحوش تحسب له ألف حساب.
مضت سنون، وفي أحد الأيام هاجم القرية وحش هجين نصفه بشري، ومع أن الحكيم الحامي للقرية هزمه إلا أنه لم يقتله.
تكرر هجوم الهجين الطائش الذي يريد اثبات جزءه المتوحش أمام أقرانه، وتكرر عفو المحارب عنه، وفي لحظة ساحرة على ضواحي القرية جلس المحارب يتأمل الافق الممتد.
لم يكن خافياً عليه مراقبة الهجين له منذ وقت طويل؛ ناداه فجأة:
– تعال وقل ما تريد ولا داعي للاختباء أكثر..
بعد تردد طويل نزل من على الشجرة واقترب منه..
مرت دقائق من السكون والصمت الصاخب، ثم تشجع ليسأله عن سبب عدم قتله فأجابه بحزن:
– ﻷنك تشبهني كثيراً.
اندهش الهجين لدرجة الجمه الصمت، فأستطرد المحارب وهو يسرح بناظريه في الافق.
– مر وقت طويل وأنا اقاتل الوحوش، ومع المعارك صار جزء مني وحشاً مثلهم، يفكر مثلهم، يتحرك بنفس سرعتهم، لا يتردد في انتزاع أرواحهم، باختصار لم اعد أعيش حياة بشرية خالصة داخلي.
غرقت عيناه بدموع مكبوتة وهو يكمل:
– لكني لا أستطيع الانتماء لهم، كما أني أعجز أن أكون بشري واتخلى عن مهمتي؛ لقد أصبحت هجيناً وحيداً منبوذاً من الطرفين تماما مثلك.
إن هذه الاسطورة بخيالها تجسد حقيقة لا مفر منها في حياة البشر، وهي أن الفرد لابد أن تؤثر عليه مهنته ورسالته في الحياة.
الأشياء، المهام، والأشخاص الذين تعمل معهم، أو عملك قائم عليهم سيضعون نكهة وأثراً اخدودياً يسهل ملاحظته في حياتك.
تجد، غالباً، القائمين على اللاجئين هم أشخاص يعيشون حياة اللجوء والتشرد.. اليس كذلك؟
الجراح والطبيب يفقد قدرته على النظر لمن أمامه كإنسان متكامل، بل هو بالنسبة له حالة لا غير، مواد، معادلات، دم، وأعضاء فقط.
الذين يعملون في إنقاذ الناس من الكوارث يصير تعبيرهم عن البشر بالأرقام.
بينما الدم والأشلاء تفقد هيبتها عند رجل الحرب. الدموع والشهقات لم تعد مؤثرة جداً على من يمارسون الاستشارات، والإرشاد النفسي والاسري، فهي جزء من يومياتهم.
المدير دوما يركز على الأهداف والأرباح لتحقيقها حتى في زواجه وبيته.
والسياسي المخضرم تصبح كل الأمور عنده لعبة شطرنج لا أكثر.
كما أن الصحفي والمصور يتوق للحدث المهم الذي يصنع ضجة، وحبذا لو كانت مأساة مفجعة فتلك لها طعمها اللاذع.
الأدباء صار عندهم فصام لكثرة عيشهم في أبراج الخيال والفيكشن.
هذه الآثار أخطر وأعمق من مجرد الآثار الجسدية للمهن، حيث تجد أغلب التهاب العضلات تصيب العاملين أساساً على الحاسوب وعالمه.
الكرش والبدانة نصيب أصحاب الأعمال المكتبية.
المحاسبون غالباً تصيبهم أعراض المثالية والوساوس القهرية.
من يعملون في السلك الأمني يصير طريقهم سريعاً للسكري والمعدة والجلطات والقلق..
أمراض القلب هي بالتأكيد لأرباب المال والأعمال.. والفنانون يفقدون قدرتهم على الاستقرار والرضا.
أما العاملون في المطاعم والوجبات السريعة لا لقاء بينهم وبين الأكل المنزلي بكل حسناته..
السائقون يدمنون الثرثرة ويعانون التيبس في الجسد والمفاصل..
أرجو أن الفكرة قد اتضحت لكم الآن؛ مهنتك وعملك لابد أن تفعل بك الأفاعيل وبطريقة أو بأخرى ستمتص أنت صفاتها وتتغير شخصيتك.
هل ممكن التحكم بذلك؟
نعم؛ لكن ليس بشكل كامل، بل إلى حد بعيد يمكننا أن نسيطر على تلك الأعراض والآثار،
ويرتكز السياج اﻵمن بيننا وبين المهن التي نحترفها على دعامتين جوهريتين:
1. حدد منظومة القيم والأولويات التي تنشد اكتسابها من وظيفتك.
اجعل الأمر واعياً متيقظاً ولا تسمح للتيار أن يسحبك حيث شاء.
العمل ممكن يعطيك عدة أمور مثل:
السلام الداخلي. التغيير بطريقتك للعالم. اثبات الذات. توسيع العلاقات. تطوير المواهب. الاستخلاف الرباني. توسيع مدارك الفكر والاهتمامات. الاستمتاع بالحياة. تأدية المعتقدات. تطوير خبرات ومهارات حياتية وتخصصية. مقاومة العثرات النفسية. الدخل المادي. العزة والاكتفاء الذاتي…
كما نرى، فالمهنة ليست مجرد وسيلة لكسب العيش بل هي العيش بعينه.
هي ليست طريقة للاستمرار بالحياة، بل هي ذات الحياة وبدونها نحن في درجة من درجات الموت.
هي باختصار تجسيد لنفسك حسب اولوياتك.
وما تركز عليه منها سيعيد صياغة نفسك وحياتك بشكل واعي.
2.التوازن ثم التوازن
الإنسان يتكون من عشرة جوانب، وأي جانب من الجوانب سيأخذ زيادة على حساب البقية، فهذا سيؤدي لتشوهات وانحرافات في شخصية الإنسان مهما كانت الأسباب معقولة في نظره.
إن الانضباط تجاه الاسرة والنفس والمجتمع.. الخ؛ سيجعل المهنة في إطارها اﻵمن، وسيمنع مسخ الفرد إلى آلة عمل أو كشف حسابات أو محفظة نقود.
في النهاية، ما فائدة أي نجاح مهني حين تكون قد فقدت انسانيتك وبشريتك، فلا أحباء ولا دين ولا هوية ولا وطن تأوي إليهم!
وتذكر دوماً أنك أنت من يملك المهنة، فلا تسمح لها أن تملكك تحت أي مبرر أو قناع؛ ﻷن ﻻ شيء بعد ذلك سيبقى ذا قيمة في حياتك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى