سألت عن الوضع في اليمن بعد مرور شهرين من اندلاع الحرب، فأجابني أحدهم بكلمة واحدة فقط ( حرب ) .
سألت عن الوضع في اليمن بعد مرور شهرين من اندلاع الحرب، فأجابني أحدهم بكلمة واحدة فقط ( حرب ) .
( حرب ) كلمة صدمتني أكثر من الليلة التي استيقظ فيها أبناء الشعب على دوي الانفجارات تهز أرجاء العاصمة… جعلتني أُفيق من وهمي، فلم أكن مستوعبة بعد أنها حرب، موقنة أن اليمنين بحسب ما نعرف ( أهل الحكمة ) وأن هناك حديث اذا اشتدت الفتن فعليكم باليمن ..!!
أيقنت بأن حكمتهم ستردهم إلى صوابهم مهما ضاعوا، ولن تطول ولن يصيب الوطن وابناءه سوء وأنها مسألة ساعات وأيام فقط وستنجلي .
إلا أن الأيام والأسابيع والشهور تمضي بنا مهرولة لدرجة أننا لم نستوعب ان الحرب قد مضى عليها حتى الآن عام ولم نكن أهل حكمة.. بل أظهرت الحرب حجم الانحراف الفكري وفساد المفاهيم والتصورات والأساليب التفكيرية التي حالت بيننا وبين التحلي بتلك الحكمة التي أثنى بها علينا نبي الرحمة و التي كنا نُفاخر بها..!
عام من الحرب انهارت على وقع نيرانها تلك المباني التي استغرقت سنوات ليعلو في أرض اليمن شموخها فإذا بها تحني قامة كبريائها في ثانية من القصف لتخلّف داخل الإنسان انهياراً ساحقاً وشعوراً بالتشظي وحسرة لا تنقضي .
عام من الحرب والألم عاشه الشعب الذي جفاه النوم، ولازمه الخوف و القلق، فأصوات الطيران تقظ مضجعه والمدافع يقتله صوتها قبل أن تصل إليه نيران قذائفها، و على سقوط الصواريخ تنهار الأحلام التي رسمها في خياله كالبنيان الشامخ، ويقف التفكير في ذهول تام حيث لا يسمح دوي الانفجارات وأصوات الحرب سوى أن يفكر بالموت لا بالمستقبل.. هل ستطاله الصواريخ والقذائف أو شظاياها، سيموت على غفلة من القلق كالذين ماتوا وهم لا يتخيلون ذلك، أو سيُكتب له عمراً جديداً..؟!!
عام مضى على الحرب حدثت فيه ماسي الحروب من ترويع و تخريب وتدمير وإزهاق للأرواح عمدا وطيشاً وعبثاً ، وخلّفت جياع وجرحى ومفقودين وحزن غائر وجرح لا ينفك ..
عام حدثت فيه جرائم فاقت كل تخيلاتنا ، وتجاوزت كل قدراتنا على استيعابها ووقف العقل عاجزاً عن التفكير حيالها، رافضاً أن تكون حقيقة لفرط قبحها..
خلّفت لنا الحرب إرثاً مثقلاً من الأوجاع والأحقاد، وإنسانية مجروحة بعد أن صار الإنسان يستسهل القتل والتهديد بالذبح كأنهُ كلاماً عاديا يُقال لفرط مشاهد الدماء المتداولة في وسائل الإعلام .. وأطفالا يلعبون لعبة الحرب، بعد أن صارت ألعابهم التي تُباع وتُشترى عبارة عن قنابل ومتفجرات وأسلحة واحزمة ذخائر على شكل ألعاب، وصارت احلام المستقبل للأطفال أن يصبحوا محاربين يقاتلون بعضهم..!!
عام مر على اندلاع الحرب كشف لنا مدى الحد الذي وصلت إليه قيمة الإنسان من العبثية بعد أصبحت الدماء الإنسانية المُعظّمة في حُرمتها تُراق كالماء على أيدي إخوانهم اليمنين ليسقوا بها تلك الشوارع المذهولة في صمتها مما حدث والعاجزة عن استنكار ما اقترفته أيادي الإنسان وقبلها استنكرت الملائكة ” قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ..” البقرة30
في زمان أصبح الإنسان يُذبح فيه كالنعاج إلا أن النعاج تُذبح كونها مُسخرة للإنسان ولراحته ككل هذا الكون البديع الذي سخّره الله تعالى للإنسان، فإذا بالناس يسخّرون ما في الكون لقتل الإنسان وبسم الله – سبحانه وتعالى عما يصفون – تتم تلك الجرائم التي يباركها الشياطين..
حين يكون الإنسان لا قيمة له يعني ذلك ألا مستقبل ولا دولة ممكن أن تقوم حيث تنهار الحضارات وتسقط الدول حين تفقد في معناها قيمة الإنسان ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا )
أن تكون هناك قيمة للإنسان فذلك يعني فيما يعنيه حصول الإنسان على حقه من الكرامة البشرية وحظه العيش الكريم الأمر الذي يعني قيام دولة تسهر على راحة مواطنيها وأمن ساكنيها وتهيئة البيئة لإطلاق ممكنات الإنسان وقدراته، والاستفادة من التسخير الإلهي في بناء الحياة، وهو الأمر المفقود في دول لا تعطي قيمة للإنسان.
ومّرت سنة… لتخبرنا أننا لا نملك الإنسان .. نعم .. الإنسان الذي يفترض به أن يبني الحياة ليس جاهزاً لذلك بعد أن أصبح مشروعاً للتدمير والتخريب..
لن نيأس ولن نظل نسكب الدموع فقط على ما جرى ..هناك أمل.. فالشمس تشرق كل يوم بعد ظلام حالك، والعصافير تغرد معزوفتها كل يوم لتخبرنا أن هناك قدراَ جديداً يولد من الألم.. وأن دوام الحال من المحال ..
ستعود الإنسانية إلى الإنسان ليغمد سيوف ظلمات الحرب المسلولة, وستعود الأسلحة إلى أوكارها ليعم السلام بيننا، و يتبدل شقاء اليمنين بالنعيم ..
سنحلم مادامت اليمن زاخرة بمحبين السلام الداعين إليه والماضين في بناء الإنسان من جديد وبناء السلام فيه وإزالة كل العوائق الفكرية والمادية التي تحول دون الوصول إلى ذلك السلام ..
وستعود الحياة لأنها تنبثق من اسم الله الحي ( الحي الذي لا يموت ) لو كان الموت يصنع شيئاً لوقف مد الحياة! ولكنه قوة ضئيلة حسيرة بجانب قوى الحياة الزاخرة .
من قوة الله الحي تنبثق الحياة وتنداح.