من الأشياء المتفق عليها عند علماء المسلمين أن المصدر الأساس للتشريع الإسلامي هو «القرآن الكريم»، و«السنة النبوية»، فهما المادة الأساسية لتكوين الأحكام والتشريعات، وفي ضوئهما تتشكل نتائج وقواعد فكرية، وتتعين خيارات وسلوك المسلم من الأشياء المتفق عليها عند علماء المسلمين أن المصدر الأساس للتشريع الإسلامي هو «القرآن الكريم»، و«السنة النبوية»، فهما المادة الأساسية لتكوين الأحكام والتشريعات، وفي ضوئهما تتشكل نتائج وقواعد فكرية، وتتعين خيارات وسلوك المسلم. وما أضيف إليهما من مصادر أخرى كـ«الإجماع» و«القياس» و«الاجتهاد» فما هي – في الحقيقة – مناهج تساعد على الاستفادة من النص الشرعي المضمن في كتاب والسنة، وليست مصادر للتشريع الديني قائمة بذاتها، وإن كانت صالحة لتشريع ما تنظم مسيرة حياة الإنسان فيما سكت عنه الشرع من التفاصيل حسب الزمان والمكان والظروف والاحوال، وفي إطار المسار العام للنص الشرعي، على أن لا تأخذ قدسية النص الديني، أو تكون ملزمة في كل الأحوال، فلا يمكن تغيرها.
والمعتمد في فهم القرآن الكريم، والتعبير عن مقاصده، والإبانة عن دلالاته هي اللغة العربية؛ باعتبار أن القرآن خطاب موجه إلى أهلها ابتداء، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت/ 3]، {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه/113] وهذا يعني أنه لا بد من مراعاة اللغة العربية، وضعا.. واستعمالا.. ونظاماً.
وكذلك السنة النبوية المتمثلة في آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشارحة والمفصلة للمفاهيم القرآنية العامّة، إذ لا مجال للأخذ بالقرآن بشكل دقيق إلا بالرجوع إلى السنّة لنعرف من خلالها تفصيل ما أجمله القرآن، وإيضاح ما أبهمه، وتخصيص ما أطلقه، فقد أوكل الله إلى رسوله أمر ذلك كله، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران/164] ولهذا كان التأكيد في أكثر من آية على إطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلى جانب إطاعة الله عز وجل، لئلا ينحرف الناس في التطبيق والتخطيط، بسبب بعدهم عن مُبلِّغ الوحي وحامل لواء الرسالة، الذي يعرف من عمق المفاهيم وامتدادها، المدى الذي لا يمكن أن يعرفه أي شخص آخر.
وعندما ننظر في آيات القرآن ونصوص السنة من خلال فهمنا للغة العربية فإننا نجد فيهما نوعين من الخطاب:
النوع الأول: ما يأتي بَيِّن الألفاظ واضح الدلالة يفيد المكلفين معنى معيناً، ولا يقبل الاحتمالات، فهذا لا يستساغ صرفه عن مقتضاه، ولا يجوز حمله على غير ما هو صريح فيه، شريطة أن يكون ظهوره لدى سائر المكلفين على سواء، لأن مستوى وضوحه راجعة إلى قدرة المخاطِب وليس إلى مستوى المخَاطب، أما ما يقطع به بعض أهل النظر دون بعض، فإنه يكون قطعياً في حقهم فقط، إذ لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها.
ومن خواص هذا النوع من الخطاب أنه يأتي للتعبير عما يمكن اعتباره عنوانا عاماً للدين، وإطارا جامعاً لكل المسلمين، كأصول الدين، وأساسيات العقيدة، ومقاصد الشريعة، إلى جانب التنصيص على أمهات مسائل العبادات وقواعد المعاملات، لذلك نجده مستمراً لا يأتي عليه نسخ، ولا يجري فيه تقييد أو تخصيص منفصل، ولا يكثر فيه التأويل؛ لأنه يُعبِّر عن قضايا لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وبالتالي يندر الاختلاف في فهمه، ولا يكاد يوجد فيه تعارض أو تناقض، ولا يجوز تجاوزه أو إنكاره أو الاجتهاد دونه، لما في ذلك من خطورة قد تؤدي إلى التخلي عن ثوابت العقيدة وأصول الشريعة التي لا يتم الإيمان إلا بها.
النوع الثاني: الخطاب الذي يحتمل أكثر من معنى وتختلف فيه فهمه واستيعابه وتفسيره الأفهام، فما ترجح عند الناظر وسبق إلى فهمه، ورأى أنه الأنسب لما تدل عليه الكليات والثوابت الدينية، فإنه يتعين عليه العمل بمقتضاه، ولا لوم عليه في ذلك، على نسق ما حدث أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال لأصحابه: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِى قُرَيْظَةَ» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك. فَذُكِرَ لِلنَّبِي صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ. (أَخْرَجَهُ البخاري 2/19 (946) و5/143 (4119) ومسلم 5/162 (4624) عن ابن عمر)
ونتيجة لتعدد الاحتمالات في هذا النوع من الخطاب؛ يتعين على كل حسن الظن بمخالفه فيه، وحمله على سلامة المقصد، واحتمال صوابية ما خلصوا إليه، إذ لا قطع بتفسيرٍ معين، وهذا يعني أنه لا مراد لله معين فيما هذا حاله من الخطاب، إذ لو كان الباري عز وجل يريد به شيئا محدداً من كل المكلفين وفي كل زمان، لنصب ما يدل عليه بوضوح، كما في الخطاب الصريح، ولو فعل ذلك لظهر لجميع المكلفين، فلا يكاد يختلف موقفهم تجاهه، لأننا نعلم أن حكمة الله وعدله تقضي بأن ينصب الدلالة على ما يريد، ويجعل ذلك مفهوما للجميع، فهو جل في علاه لا يعجزه الإيضاح، و لا يريد التلبيس، فلم يبق إلا أن الله تعالى يريد – في هذا النوع من الخطاب – عموم التكليف دون الصور التفصيلية التي يختلف فيها الناس، وبالتالي يكون تكليف كل إنسان – في هذا النوع – بما ظهر له. والظهور عند كل ناظر يعتمد على القرائن والترجيحات، التي تتوقف بدورها على مدى إدراك الناظر، وما أوتي من علم، وما اتيح له من فهم في محيطه الثقافي وتأثير بيئته، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.