وحتى لا يسقط المجتمع في مستنقع الصراعات التي لا تنتهي، علينا مواجهة خطاب الهويات الأولية بخطاب الحلم، الذي يمكنه أن يبعث الهمم ويعزز الإرادة نحو الإيمان بقيم الحياة المشتركة، ويوسع خيارات وآمال الناس، ويسهل عليهم الخروج من المأزق بأقل الخسائر. تمكنت ثورة سبتمبر من الانتصار على نظام الإمامة ذي الجذور الدينية الموغلة في التاريخ، والموجودة في الوعي الشعبي، وذلك بمواجهته تحت الراية الوطنية، بعد أن فشلت ثورة 1948، وحركة الجيش بقيادة البطل الشهيد الثلايا عام 1955م في تعز، لأن كلتاهما لم تستهدف تغيير جوهر منظومة الإمامة، فالأولى جاءت بإمام من خارج أسرة بيت حميد الدين، والثانية استبدلت الإمام أحمد بواحد من الأسرة هو السيف عبد الله أحد إخوته، وكانتا ترفعان الراية الدينية التي كان يرفعها النظام ذاته للإمامة.
وفي الوقت ذاته لم يجد الشعب في التغيير بتلك الصورة ما يلبي طموحاته، بينما نجحت ثورة سبتمبر لأنها واجهت الإمامة ذات القاعدة الدينية، والصبغة المذهبية، والعصبية المناطقية، تحت راية الوطنية، والذات اليمنية الجامعة التي يلتقي فيها الشعب اليمني بمختلف شرائحه وفئاته ومكوناته، وتوجهت الثورة بأهدافها نحو تحقيق غايات الشعب، وأوجدت الحلم الذي يطمح إليه كل اليمنيين، ومن هنا التفت الجماهير حولها، ورأت في أهداف سبتمبر آمالها وامنياتها.
وحين أراد البيضاني أن يرفع راية المذهبية خلال الصراع مع أعداء الجمهورية، أجمعت كل القوى الثورية بمختلف توجهاتها ومشاربها على نبذه وطرده، وتعدى الأمر في مدينة عدن إلى رمية بالأحذية، حين وصف الصراع الجمهوري الملكي بأنه ” شافعي – زيدي ” في إحدى الندوات.
وإذا كانت المذهبية كارثة ووبال على استقرار اليمن، فإن القبلية والمناطقية بالتأكيد لا تقل عنها خطورة على وحدة اليمن وهدوءه وتعايشه، إذا تم الاستناد عليها في الحصول على الحكم، فالقاسم المشترك والملح في الجيبولوتيك التاريخي للجغرافيا اليمنية، هو تعددية المركز، لذلك كلما هيمن مركز واحد على البلد، سعت الأطراف لإلغاء المركز، وهذه السمة تعد ظاهرة متكررة في تاريخ اليمن القديم والوسيط والحديث والمعاصر.
فهيمنة مركز واحد على بلد كاليمن، انما هو سعي للاستبداد والتفرد من قبل نظام لا يهتم باستقرار الوطن، بقدر ما يهدف الى استمرار حكمه، حتى وإن كانت النتيجة تفسخ البلد، وشواهد التاريخ عديدة.
الحاجة لخطاب الحلم
إن الخطاب الإعلامي الذي يستفز الغرائز، ويستثير مخاوف المجتمع، لا يخدم بدوره غير الإرهاب وتعزيز قبضة السلطة القائمة داخل أي بلد كان، كما أن غياب المشروع الوطني الجامع يحفز العصبيات الضيقة ويدفعها للظهور والبروز على المشهد، وهذا ما هو حاصل في بلادنا اليوم.
وحتى لا يسقط المجتمع في مستنقع الصراعات التي لا تنتهي، علينا مواجهة خطاب الهويات الأولية بخطاب الحلم، الذي يمكنه أن يبعث الهمم ويعزز الإرادة نحو الإيمان بقيم الحياة المشتركة، ويوسع خيارات وآمال الناس، ويسهل عليهم الخروج من المأزق بأقل الخسائر.
وفي مثل هذا الوضع المزدحم بالصراعات يصبح المشروع الوطني الذي يلتف عليه غالبية السكان أكثر الحاحاً في هذه اللحظة التاريخية الحرجة للحفاظ على اليمن واليمنيين، حتى لا تتفرق أيدي سبأ كما حصل في التاريخ مراراً وتكراراً.
ولعل العودة إلى مخرجات الحوار الوطني وتنفيذها كخطوة أولى في هذه المرحلة هي الورقة المتاحة لبداية السير نحو المستقبل، فالمشروع الوطني الجامع هو القادر على مواجهة وازاحة التيارات المسلحة التي تستغل المذهبية والقبلية والمناطقية في تعبئة الأتباع للاستيلاء على السلطة في البلد.