الدولة المدنية ومقاصد التشريع (1)
تتبوأ مباحث مقاصد الشريعة منزلة مهمة في الدراسات الأصولية المعاصرة، بل باتت “نظرية المقاصد” بحسب فريق كبير من الأصوليين هي النظرية الأكثر مرونة لاستيعاب أحكام الشريعة وقوانينها وما سيستجد منها، وذلك لأن المقاصد هي روح الشريعة وغايتها ومرماها ومغزاها، فبمعرفة المقاصد يتبين الإطار العام للشريعة، والتصور الكامل لها، وتتضح الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام، لتتكون النظرة الكلية الإجمالية للفروع، وبذلك يعرف الإنسان ما يتوافق مع الشريعة، وما لا يتوافق معها.. فكل ما يحقق مصالح الناس في العاجل والآجل، في الدنيا والآخرة، فهو من الشريعة، وكل ما يؤدي إلى الفساد والضرر والمشقة والاضطراب فهو ليس من الشريعة.
والحديث هنا عن الشريعة باعتبارها جزءاً من الدين لا الدين كله، باعتبار أن الدين عقيدة وشعائر وشريعة، وعليه فإن مقاصد الشريعة جزء من مقاصد الدين، ولأن الشريعة هي الأحكام والنظم التي تنظم حياة الناس في عالم الشهادة فإن مقاصد الشريعة ستتعلق بما يصلح الناس في معاملاتهم وعاداتهم، بينما تكون مقاصد الدين أشمل من ذلك، فتشمل مقاصد عبادتهم وعقائدهم أيضاً، وعليه فإن مقاصد الدين تبين الأهداف السامية التي يرمي إليها الدين، وتوضح الغـايات الجليلة التي جاءت بها الرسل وأنزلت لها الكتب، فيكون المؤمن على بيان ووضوح في تفاصيل الدين وجزئياته إن ظلت تلك الأهداف والغايات حاضرة بذهنه على الدوام، فإذا ما غابت تناقض واضطرب، وفقد الدليل الذي يساعده على فهم الطريق. أما مقاصد الشريعة فتوضح أهداف التشريع وغاية القوانين المنظمة لحياة الناس.
أما الدولة المدنيّة فلن أطيل في تعريفها وما يطرحها عليها لأني ذكرت ذلك في سلسلة مقالات سابقة وبإمكان القارئ العودة إليها، وخلاصتها أنها الدولة التي يتم فيها: استقلال السلطة السياسية، وتعتمد حق حرية المعتقد وممارسة العبادة لكل فرد، وحق المواطنة المتساوية لكل أبناء الوطن، وكافة الحقوق السياسية والمدنية للأفراد، وتقوم على التداول السلمي للسلطة، والعمل المؤسسي في كل أجهزتها.
ولما كان التشريع للأحكام والقوانين جزءاً مهماً في “الدولة المدنية” كان لا بد من البحث عن فلسفة ومقاصد التشريع في الفكر الإسلامي، للانطلاق برؤية كلية إلى تلك التفاصيل في الأحكام والقوانين، فيتضح شكل الدولة المدنية من منظور الفكر الإسلامي بشكل أكبر، ويظهر مدى اتساق تلك الفلسفة والمقاصد مع قيم الدولة المدنية، مع امتياز تمتاز به تلك الأحكام والقوانين من استنادها لجذر أخلاقي لا مادي يجعل المؤمن بها محافظاً عليها حتى لو امتعنت رقابة الدولة، وهذا يساعد في إعمالها بشكل أكبر.
أولاً: مقاصد الدين
استقر في الخطاب الديني المعاصر أن مقاصد الشريعة هي ذاتها مقاصد الدين، كما استقر أيضاً أن مقاصد الشريعة أو الدين هي تلك الكليات الخمس من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وهذا البحث يحاول أن يسلط الضوء على إشكاليتين وقعت فيه الدراسات المقاصدية المعاصرة التي اطلع عليها الكاتب، كانت الإشكالية الأولى في المدخل لدراسة مقاصد الدين، إذ كان مدخلها العقوبات المنصوصة وغير المنصوصة في القرآن، وهذا ما أكده الجويني في حديثه عن الكليات الثلاث، حفظ النفس وحفظ العرض وحفظ المال، ثم الغزالي في حديثه عن الكليات الأربع في “شفاء الغليل” بزيادة حفظ العقل، ثم الكليات الخمس في “المستصفى” بزيادة حفظ الدين، وهي التي اشتهرت لاحقاً بالمكليات الخمس أو المقاصد العامة للشريعة، يقول الطوفي مؤكداً العقوبات كمدخل لدراسة الضروريات الخمس: “وهي حفظ الدين بقتل المرتد..، وحفظ العقل بحد السكر..، وحفظ النفس بالقصاص، وحفظ النسب بحد الزنا، وحفظ العرض بحد القذف، وحفظ المال بقطع السارق”( ).
أن تلك المقاصد من حفظ النفس وحفظ النسل وحفظ العرض وحفظ المال، تصلح أن نطلق عليها مقاصد للتشريع، يضعها المشرع القانوني أمامه حين يضع القوانين والأحكام، أما مقاصد الدين عموماً، أو مقاصد القرآن فكان ينبغي أن لا يكون مدخلها العقوبات المنصوصة فكيف بغير المنصوصة، وإنما كان ينبغي أن يكون مدخلها الآيات التي جاءت معلِّلة مقصد وهدف إرسال الرسل وإنزال الكتب عموماً، ومعلِّلة مقصد رسالة نبينا محمد عليه السلام، ومقصد نزول القرآن خصوصاً، والتي تتحدث أيضاً عن مقصد الخلق للإنسان، ومقصد الحياة على هذه الأرض، ثم باستقراء وجمع تلك الآيات نخرج برؤية مقاصدية واحدة تكون هي “مقاصد الدين” أو “مقاصد القرآن” وتكون مقاصد التشريع مندرجة تحت هذه المقاصد العامة.
يقسم الفقهاء الدين لثلاثة أقسام: عقائد، وعبادات، ومعاملات وعادات، وعليه فإن مقاصد الدين يفترض أن تشمل كل تلك الأقسام، فمقاصد الدين تشمل العقائد، والشعائر/العبادات، والمعاملات والعادات/الشريعة. وبحسب هذا التقسيم الثلاثي يمكن أن نتتبع في النص القرآني مقاصد العقائد، ومقاصد الشعائر ومقاصد الشريعة، وتكون دراسة الكليات التي تحفظ الإنسان مندرجة ضمن الشريعة.
بعد استقراء الآيات القرآنية والنظر في الآيات المعللة التي تحكي عن تلك المقاصد توقفت عند هذه الآيات:
فأما مقصد إنزال الكتب وإرسال الرسل فتقول الآية: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحديد:٢٥، هذه آية واضحة تقول بباسطة أن هدف إرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة “القسط”، والقسط هو العدل، ومن فرق بينمها قال: إن العدل لفظ يحمل مفهوم المساواة، والقسط يعني النصيب العادل، والقسط ضده الجور، والعدل ضده الظلم.
وأما عن مقصد رسالة نبينا عليه السلام فتقول الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء:١٠٧، وهذه الآية واضحة في أن “الرحمة” للعالمين هي هدف رسالة نبينا عليه السلام. وهي رحمة للعالمين لا للإنسان فقط.
ومن مقاصد رسالته عليه السلام ما ذكرته الآية في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ الجمعة:2. فإنها توضح أن هدفه هو تزكية الناس وتعلميهم الكتاب والحكمة.
وأما عن مقصد نزول القرآن فتقول الآية: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾ طه: ١-3، فالآية تقول بأنه سبحانه لم ينزل القرآن لشقائك بل لسعادتك وكل من آمن به، وهو تذكرة.
ومن مقاصد إرسال الرسل ما جاء في قوله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25].
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ النحل:٣٦، فهدف بعثة كل نبي هو تحقيق التوحيد والعبودية لله سبحانه، والتوحيد في خلاصته هو تحرير الإنسان عن عبودية ما سوى الله..
أما عن مقاصد الخلق فتقول الآية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:٥٦، فالعبودية لله مقصد من مقاصد الخلق. وكذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ الملك:٢؛ فالاختبار بحسن العمل مقصد من مقاصد الخلق.
ومن مقاصد الخلق أيضا ما جاء في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ هود:٦١، فاستعمار الأرض أي عمارتها مقصد من مقاصد الخلق، وعمارتها تكون بقيم الحق والخير والجمال.
هذه تقريباً هي مقاصد الدين العامة التي ذكرتها الآيات، ويمكن أن نوزعها على أصول الإسلام الثلاثة، العقيدة والشعائر والشريعة، فيكون التوحيد والعبودية مقصد العقائد، والتزكية والتقوى مقصد الشعائر، والعدل والرحمة مقصد الشريعة، ومن تحقق بذلك فقد حقق لنفسه السعادة وانسجم مع الكون، وحقق عمارة الأرض ونجح في الابتلاء بحسن العمل.
ولن يكون اختبار حقيقي للإنسان إلا إذا مُنح حرية الاختيار، لأن الإكراه يسقط عنه المسؤولية، فحريته هي التي تمنحه المسؤولية في الآخرة، وعبادة الله طوعا لا كرها لا تتحقق إلا بالحرية، ولهذا كانت الحرية هي الأمانة التي تحملها الإنسان وأشفقت بقية المخلوقات عن حملها، لما فيها من مسؤولية في الآخرة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ الأحزاب:٧٢.
ومنع الله سبحانه الإكراهَ على الإنسان من أي جهة كانت حتى لو كانت من الأنبياء والرسل، ولا يُكره إنسانٌ على أي فكرة كانت حتى لو كان الدين نفسه ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة:٢٥٦. ومن يمنع عن الإنسان حريته فهو يقف أمام الأمانة العظمى التي حملها الله سبحانه للإنسان، ويقطع طريق الاختبار للإنسان، ويقف بذلك ضد مقصد الدين من خلق الإنسان.
هذه هي خلاصة مقاصد الدين/القرآن: التوحيد والتزكية والعدل والرحمة والحرية، وحيث تاه المسلم في التفاصيل عاد لهذه المقاصد ليقترب أكثر من فهم الآيات وتنزيلها.