لا أدري ما مصدر الحنين لعفوية الحياة الريفية وبساطتها.. هل للأمر علاقة بخلو القرية من النمط الحياتي المعقد أم انه الحنين الروحي البدائي والنفور من كلفة الانتقال لنمط العيش في العالم الذي قد يمنحنا كل اشكال المواطنة لكنه لايبث فينا الروح.. تلك التي تدب في البال مع بزوغ ضوء الصبح وحيوية نساء الحقل ونشاط الفلاح والحاطبات حاملات الشريم..
وعيت الحياة، في قريتي تلك التي تقع ببطن الجبل، ورائحة الأرض الطافحة بالنبات تملأ روحي، وتشدني الحقول المتسلسلة حول المنازل، ذلك الدفء الذي ترسله الشمس في باكورة الصباح، تلك التجمعات النسائية في الصباح الباكر، حكايات الشباب المغتربين الذين شقوا طريقهم نحو الغربة بحثاً عن مستقبل أفضل فمنهم من نجا وحقق مراده ومنهم من غرق في أتون المدن وشوارعها حتى تغير.
وقد ارتبطت طفولتي بشيء من براءة الطفولة: فيقول الكبار إني كنت دائما أصحى صباحا وأطوف بين الأغنام وهي في “أحواشها” وأغني “تلو عنم تلو ضان”، حاملا رغبتي في الانبعاث وهجران الطفولة المبكرة نحو المسؤولية.. وكان لي لقبا نسميه “ذمر” وهي تسمية تطلق على الشخص فيعرف بها، فكانت تتم مناداتي بـ”الشكراتي”، نسبة للحزب الاشتراكي الذي ينضوي في إطاره كل أفراد أسرتي تقريبا في تلك الفترة، وحينما كان يتم سؤالي عن انتمائي الحزبي كنت أقول الشكراتي أي “الاشتراكي”..
كان أول ما استوعبته ذاكرتي وما زلت أتذكره للآن: غبار رمال متصاعدة من على جبال عتمة وبكاء جدتي وأهالي القرية خوفا على أولادهم المجندين حديثا في الجيش بعد اندلاع الحرب، قد تكون حرب 94، لا أعلم، كما أتذكر عودة المناضل مسعد الجرادي محمولا على النعش بعد أن تعرض لإصابات بالغة في مناطق عدة من جسده، يا لهول تلك اللحظة..
كلما كبرت أشعر أنه لا حياة كالريف، تتيح للأطفال فرصا لا تُضاهى للامتزاج بالطبيعة والتشبع بما تكتظّ به من جمال، ومن تفاصيل تغري الحواس، أنت هناك لا تشاهد عالما بعيدا عنك ولا تتفرج عليه، أنت أحد كائناته وبعض منه.
كنت كطفل انتظر موسم انتاج العسل بفارغ الصبر فجدي (والد الصحفي والشاعر محمد صالح الجرادي ) نحّالا بكل معنى الكلمة فهو يمتلك أكثر من 150 خلية نحل في “دلاليع” مصنوعة من الطين، ينتج العسل بأجود صورة، ولديه زبائن يأتون من كل حدبا وصوب فذلك النحل جبلي لا يتغذى إلا من الزهور ولا يعرف السكر أبدا، فقدَ كل تلك الثروة مع مرور الأيام وانتشار النحالين القادمين من حضرموت وشبوة إلى ريمة ووديانها حيث كان النحل يهاجر بشكل تدريجي إلى حيث يجد السكر الذي شكل له عامل جذب.
أما ليل القرية فله حكاية أخرى يشدني إليه رابط مجهول، شيء ما لا أفهمه، سحر خاص في اعتقادي ظل هناك في قاع الروح في اللاوعي يمثل مصدر إلهام لي، ويملؤني بالسكينة.
أتذكر تلك الليالي بشغف حين كنت أقف بين يدي جدتي سعادة (والدة أبي) كتلميذ نجيب وهي تحكي عن قصة فرارها بأبنائها الصغار من ريمة إلى جبال عتمة خوفا من الحرب التي شنها النظام على مناطقنا في الثمنينيات لملاحقة الجبهة الوطنية الموالية للحزب الاشتراكي.. عن أهوال تلك الأيام ومخاوفها بالنسبة لأرملة مثلها تدبر شؤون حياة أبنائها وبناتها بعد وفاة جدي وهم أطفال صغار.
في الواقع، الكلمات لا تكفي للتعبير عن الرعب الذي كنت أشاهده في ملامح جدتي لدى سردها لنا حول تلك الليالي القاسية ومخاوفها من أن يمس أولادها شيء بعيدا عن الديار، وبحسها وذاكرتها وقدرتها على حكاية الأحداثاعطتني لمحة كافية عن تلك المعاناة والإذلال الذي عانى منه الناس في ذلك الوقت.
إنها جدتي تلك المرأة العصامية وملامحها التي تعكس جمال بلادنا وصلابتها وكأنها وديعة في جعبة الزمن، وما تزال تعيش بقية عمرها مقعدة بعد أن أجهدتها الحياة ومتاعبها
والدي نجار مخلص لمهنته، ولكنه أيضا مشغول بالسياسية وبالحزب، لم ينخرط في التعليم الرسمي مثل الكثير من الرفاق، في ذلك الوسط الريفي البعيد عن المدينة حيث كان البعض قد نال نصيبا قليلا من التعليم في معهد باذيب بعدن، ولكن حينما تجلس إلي أحدهم تجد نفسك أمام موسوعة يحدثك عن الفروقات بين البروليتاريا و الرسمالية والبرجوازية، عن لينين وماركس، عن الطبقية وتدميرها للمجتمعات،
ومن هؤلاء أتذكر العم محمد وهو مثقف بالمناسبة ليس من أولئلك الذين يجترون المقولات الاشتراكية المدرسية، دون أن يضيفي عليها جديدا. ولقد حفظت جملة من أحاديثة تلك التي لا تمل: اليمن لن تستقر بدون التوزيع العادل للسلطة والثروة، وكنت دائما ما أتسلح بها في وجه دكاترة الجامعة الموالين للنظام، كان هذا الاقتباس يشعرني دائما بأني شخص مثقف وفاهم!
ولقد ظلت بلادنا وتحديدا -مديرية السلفية التي بوابتها بنو الجرادي _ إحدى أهم الحواضر اليمنية التي توالي الحزب الاشتراكي رغم كل ما تعرض له الحزب من ضربات.
من بعد الوحدة، ظلت هذه المديرية صامدة في وجه المتغيرات وتمنح الحزب حضورا فاعلا ومؤثرا في المجلس المحلي بالمديرية رغم تجاهل القيادة المركزية في صنعاء للمديرية وأبنائها خصوصا أثناء الإعلان عن ممثلي الأحزاب في الحوار الوطني حيث لم يمنح الحزب ريمة مقعدا واحدا رغم أن مديريتنا وحدها تمنحه 9 أعضاء مجالس محلية وهو عدد لا يحصل الحزب عليه في محافظات شكلت منطلقا للحزب منذ التأسيس، وهو ما شكل صدمة جعلت أنصاره في حالة انكشاف وعرضة للاستقطاب من قبل القوى والأحزاب الأخرى.
صحيح، لا يمكن فهم علاقة الأرض بالإنسان، وليس من السهل معرفة الأسباب الحقيقية وراء ارتباط الإنسان بأرضه؛ لكن ينبغي الاعتراف بأنّه من الصعب أن نعيش الأمور كما نريد، وتلك الحياة قد اختفت، ولن نعيشها مرة أخرى مثلما اضمحلت الشمائل الحميدة في الناس، انتهت حياتنا كمجتمع ريفي كما انتهت حياة كل اليمنيين في الأرياف والمدن إلى بؤس أكبر مما تُصوّره الكثير من الأعمال الروائية.
لقد كنت ومازلت أفتش عن القرية في مخ الغربة، في النباتات والأشجار والزهور التي تزين المدن التي مررت بها. رغم المسافات التي بيننا، ستظل كل تلك التفاصيل عصية على النسيان، وستظل قريتي تلك المحفوفة بعناية الله ورعايته صامدة في وجه جبل “حلف” وصخوره المرعبة.
ومذ غادرتها، في 2007، وحتى هذه اللحظة، والمحرورة كلها تبُوح في روحي صامدة ببطن الجبل، بمبانيها القديمة، لا تذهب بعيدا ولا تقترب بما يكفي، لا قطيعة بيننا تساعد على النسيان، ولا قرب يلم الشمل ويعد بعناق الأروح.