تشهد اليمن تصفية حسابات سياسية وطائفية ضد كل من عبر عن روح ثورة فبراير الشبابية الشعبية السلمية التي انطلقت في فبراير 2011، وبعد خمس سنوات على الثورة، لم يكن اليمنيون يتخيلون كل هذا الخراب الرهيب لمجرد حلمهم النقي بالمواطنة المتساوية والدولة العادلة. تشهد اليمن تصفية حسابات سياسية وطائفية ضد كل من عبر عن روح ثورة فبراير الشبابية الشعبية السلمية التي انطلقت في فبراير 2011، وبعد خمس سنوات على الثورة، لم يكن اليمنيون يتخيلون كل هذا الخراب الرهيب لمجرد حلمهم النقي بالمواطنة المتساوية والدولة العادلة.
فبينما كانت المرحلة الانتقالية مليئة بالعديد من الأسباب التي لا تدعو للتفاؤل وإنما للقلق والإحباط بعد كل التضحيات الجسام، تحول الربيع اليمني إلى مجرد حرائق بسبب استبداد وتحجر النظام من جانب وتجيير الثورة من جانب عبر أطراف داخلية وخارجية.
والشاهد أن أهم سؤال ناشب في اليمن اليوم هو كيف وصل الحال إلى مساعي تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ والاحتراب الأهلي واسع النطاق، ثم إلى أين ستفضي باليمن تعقيدات هذا الصراع بمختلف تجاذباته المحلية والاقليمية والدولية؟
كذلك تأتي الذكرى الخامسة للثورة اليمنية في ظل تغييرات كبيرة على أكثر من صعيد، أبرزها انقسام مركز القرار في البلد بعد سيطرة ميليشيا جماعة “أنصار الله- الحوثيين” على السلطة في صنعاء بالقوة، وبوعي ما قبل وطني أرعن أدخلنا في صراع الوكالة الإقليمي، مع بدء انهيار العملية السياسية حتى تلاشيها، وقيام تحالف عربي بقيادة السعودية لاستعادة شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي يقيم في عدن كعاصمة مؤقتة، فضلاً عن بروز مقاومة ضد الانقلابيين، وسيطرة ارهاب القاعدة وداعش على مساحات أوسع.
وبالرجوع الى ثورة فبراير 2011، فقد اندلعت جراء أكوام من المظالم والمشكلات المتراكمة، ثم كبرت سريعاً مختلف مظاهر الاحتجاجات والمطالب الشعبية المشروعة المرتبطة بالثورة في عموم البلاد، على الضد من التضييق السياسي والأمني والتدهور الاقتصادي وازدهار الفساد والتوريث، ما يعني أن مضامينها مع الحقوق والحريات والخبز والكرامة واستنهاض جذوة الشعب لا تجريفها كما هو حاصل الآن.
آنذاك كانت البلاد أمام مفترق تغيير حقيقي، فالشعب في خضم لحظة تاريخية لا تتكرر بسهولة.
غير أن استقلالية ثورة الشباب لم تدم طويلاً، إذ ان نصف النظام صار في الثورة؛ وانشق الجيش، وطل شبح الحرب الأهلية، ودفع الثوار ضريبة صراع الكبار فيما اتضحت الضغوطات الدولية للمحافظة على أهم مفاصل النظام وفق تسويات وتفاهمات ظاهرة وباطنة.
وحيث ظل المشهد ملتبساً لشهور؛ التهمت القوى الجاهزة الإنجاز وانحازت إلى مصالحها. وفي السياق ثمة من كانوا يستمرئون في جعل الثورة – من داخل الثورة – تدمر نفسها بنفسها، مصممين على هدم أواصر الروح الثورية بمختلف أنواع استراتيجية الهدم من الداخل.
على أن المرحلة في غالب محطاتها كانت عبارة عن جولات صراع متأجج تحت الرماد “السياسي والقبلي والمذهبي” ما بين أجنحة الحكم ومراكز القوى، قادت إلى خيبات شعبية متوالية.
وبما أن القوى السياسية فشلت في التعاطي مع الأولويات، فقد فشل جمال بن عمر المبعوث السابق للأمين العام للأمم المتحدة في غالب أداءاته التي لا تخلو من شبهة التواطؤ لصالح قوى بعينها، كما يرى مراقبون.
بمعنى آخر، كانت ثورة عفوية ذات تمخضات وتراكمات موضوعية، فالنظام لم يقم بإصلاحات وطنية حقيقية ترضي جميع اليمنيين على اختلاف مناطقهم وتياراتهم.
غير أن من أبرز الاشكالات التي ما تزال قائمة منذ ما قبل فبراير 2011 هي اشكالية بناء الدولة وتنمية المواطنة والديمقراطية والمدنية في ظل السلاح المنفلت والمتكدس بيد جماعات متعصبة ومراكز نفوذ سياسية واجتماعية تقليدية لطالما اثخنت اليمن بمصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة.
وبالمقابل، كان أهم مؤثر في مسارات الحدث الفارق في حياة اليمنيين متمثلاً في البعد الانقسامي الوطني الذي اصطدمت به الثورة بسبب الخلل الجوهري في مفهوم الجيش الوطني الذي لم يتحقق منذ ما بعد الثورة الأم -قبل أكثر من خمسين عاماً- بحيث استمرت ولاءات الجيش لصالح قوى مناطقية أو حزبية أو شخصية.
والحال إن المراجعات تتطلب انتقادات صريحة خالية من العاطفة والرومانسيات كما يجمع غالبية الثوار في الوقت الحالي، وبالتأكيد لا تعني هذه المراجعات تجميل وجه النظام الذي ثاروا عليه إطلاقاً، وإنما باعتبارها وقفة جادة تبحث عن حقيقة ما جرى، وتسلط الضوء على الانحرافات والمصاعب.
فلقد صارت دماء الشهداء –وهم الايقونة الخالدة لروح الثورة- تذكرنا باستغلالها من قبل الأصدقاء والأعداء معاً من الذين اعتبروها جسراً لتثبيت غنائم الانتقامات والمصالح للأسف.
بيد أن الصدمة الكبرى تمثلت في انكشاف المعارضة حينها، بل المنظومة السياسية بأكملها من خلال عدم قدرتها على التعامل مع التحديات، والوصول إلى حالة خسران للحظة التغيير التاريخية -إذا جاز التعبير- مع الأخذ بالاعتبار نجاح النظام -بعد المبادرة الخليجية وحكومة التحاصص والتقاسم التي أنتجت آليات عمل ضد مضامين الثورة نفسها- في الاستفادة من حالة الاحتقان الاجتماعي الناتجة عن انتكاسة الحلم، بينما ساهمت في ذلك حالة الجمود والتذبذب السياسي من ناحية، وكذا ما أضمرته كيانات وأطراف داخل الثورة من ناحية أخرى، لنكتشف لاحقاً وقوفها مع مضامين الثورة المضادة على أكثر من صعد .
وبما أن القوى السياسية فشلت في التعاطي مع الأولويات، فقد فشل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة السابق، جمال بن عمر، في غالب أداءاته التي لا تخلو من شبهة التواطؤ لصالح قوى بعينها، كما يرى مراقبون.
ولئن جاء مؤتمر الحوار الوطني الذي برغم مخرجاته شبه الإجماعية المتمحورة على فكرة مازالت على الشجرة؛ وهي دولة الاقاليم الاتحادية، فلقد تناسى الجميع أنها فكرة تأتي وسط ظروف تؤهل فقط لتوسع الشرخ الوطني وفقدان شبه الدولة التي في اليد، ما بالكم وقد اتضح أن الشجرة إياها لم تثمر شيئاً سوى الجماعة الحوثية، التي وإن قطعها الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح بفأسه لاستخدامها من الجذور، فقد نجح في أن يصنع منها -وبكامل موافقتها المعززة إيرانياً كما تفيد الوقائع- بذوراً للشحن العصبوي العنفي، فضلاً عن حطب لحروبه التأديبية لخصومه، وفؤوساً لقلع الرمزية الجامعة لليمنيين، والمتمثلة في الجمهورية والدولة والمواطنة والوحدة، هكذا إلى أن تم استئناف الحرب التي تفجرت في 2011 بين الحرس الجمهوري بقيادة نجله أحمد علي عبد الله صالح والفرقة الأولى مدرع بقيادة علي محسن صالح “الذي انشق عن النظام بعد ان صار نصف النظام مع الثورة “، بحرب أخرى شاسعة وأشد جنوناً هي حرب الميليشيا ضد الشعب، إذ راحت الميليشيا -ومعها نسق الإرهاب المتسلل بسببها والمخصب بها أيضاً- يزدهران للثأر من كل ما يمثل أي معطيات للمشروع الوطني، وبالتالي طمس كل الممكنات التي كانت قد تراكمت لإنقاذ اليمن.
وبفعل هذا التأسيس البغيض لمرحلة حرب الوكالة الإقليمية، دخل التحالف العربي بقيادة السعودي في الخط، وقد انسجم معه أكثر من طرف محلي لأسبابه الخاصة.. لكن حتى الآن لم يبدر عن تصلبات الحوثيين وحلفائهم والسعوديين وحلفائهم إلا تفاقم المأساة والتدمير المزدوج.
وأما بحسب كل هذه الحيثيات المتشابكة فيمكن الخلوص إلى أنه ينبغي على المقاومة التي نهضت للتصدي للعبث الانقلابي الذي صنعته الميليشيا، عدم الوقوع في الحسابات الخاطئة وتكرار الاخفاقات، وتعليق مصيرها لقوى النفوذ الداخلية المتصارعة فيما بينها على الغنائم والولاءات المحلية والخارجية، بل ينبغي عليها استيعاب أن المتربصين يحيطون بها من كل ناحية، ولعل الخطر الأكبر عدم توحدها في شعار وطني جامع حتى اللحظة.
ففي حال استمرارها كمقاومات مناطقية أو ذات بعد مذهبي ستكون تداعياتها اسوأ على مستقبل البلد، وهي لا ترتق كل الهويات المفككة للنسيج الوطني في هوية وطنية واحدة.
من هذا المنطلق، فإن استمرار مسارات فشل الشرعية في تعبيد أي مسار للتطور وللنهوض بهذا البلد، هو ما سيجعل حالة الحرب الأهلية الشاملة لا تتوقف، كما لن يعرف أحد إلى أين ستنتهي، بينما من أبسط نتائجها الصوملة ونسيان العالم الذي بلا ضمير لليمنيين.
وبالمحصلة، فان بلوغ 5 سنوات على فبراير يجب أن يجعل كافة القوى الثورية والوطنية تلتفت للخلف قليلاً تدرك اين نحن مما كنا نريد؟ وهل سيحمل المستقبل إمكانية تصحيح المسار الثوري والوطني من خلال عقلانية التقييم لإنقاذ الاحلام اليمنية الجامعة من براثن التمزق وتكييف الارهاب وتطييف الصراع السياسي واستمرار حالة اللادولة؟
إنها اسئلة موجعة كجردة حساب لابد منها، إلا ان مختلف التداعيات والتناقضات والتحولات الجحيمية الصادمة، تفضي إلى ضرورتها كلحظة استدراك واعية لاستنطاق جوهر الهدف من التغيير، فضلاً عن أن مآلات الصراع المضادة –بعنفيتها- لروح الثورة الشبابية الشعبية السلمية هي الأكثر تغلغلاً في المشهد اليوم.. المشهد المفتوح على احتمالات خطيرة وخيارات قاسية لم تكن في الحسبان أبداً أثناء البدايات النقية لثورة فبراير 2011 السلمية.
وإذا كان التعويل على زحزحة الأوضاع القديمة للمجتمع يتطلب صنع أوضاع جديدة تنموية وتنويرية على وجه الخصوص، تحدث تغييرات اجتماعية وفكرية جديدة وفقاً للمصلحة الوطنية لا الفئوية، فإن على جميع الأطراف إبداء المرونة والنوايا الحقيقية لإيقاف الحرب كبداية للحل الممكن والاضطراري الذي لابد منه لإنقاذ اليمن. صحيح أن الطريق ما يزال صعباً وشائكاً، إلا أن الحرب قد خلفت دماراً هائلاً في الواقع وفي النفوس، حتى صار المستقبل يحتاج إلى تنازلات كبرى ذات عزيمة وطنية وحس أخلاقي بما لا يؤدي إلى تثبيت حالة الفراغ واللادولة والارهاب وانسداد الأفق واختلاط الحابل بالنابل.
ثم إن من يحبذون رؤية الحروب والدمار والهلاك، يؤكدون أنهم عميان السلام والبناء والبصيرة، وبالنتيجة فإن تحقير السياسة وتمجيد الحسم العسكري من قبل كل الأطراف بدون استثناء، يعني أن الجميع لا يريدون الوفاء بالالتزامات، مفضلين المغامرات الانتقامية التي لا تجدي.. بل أن الجميع يعملون للأسف بطريقة “إحراق الغابة لإخراج الثعبان”، وبالتالي لا يؤمنون بأن الحرب لابد أن تفضي إلى طاولة سياسية قبل فوات الأوان.