الأصل في إكراه الإنسان على المضي في مسار لا يريده أنه إجراء قبيح ما لم يأت في سياقٍ وظروف تجعله لازماً لمنع ما هو أكثر منه كرها وأسوأ منه قبحاً. الأصل في إكراه الإنسان على المضي في مسار لا يريده أنه إجراء قبيح ما لم يأت في سياقٍ وظروف تجعله لازماً لمنع ما هو أكثر منه كرها وأسوأ منه قبحاً. والإكراه باسم الدين ونيابة عن الله هو أسوأ أنواع الإكراه وأشدها فتكاً؛ لذلك سأتناول هذا الجانب في عدة نقاط موجزة.
(1) الإكراه: حمل الإنسان على فعل أو ترك تحت ضغط الترغيب أو الترهيب المادي أو المعنوي، وإنما تظهر نتيجة الإكراه في فعل أو ترك ما ليس من الأمور القلبية التي لا تصنعها سوى القناعات؛ لذلك أخبرنا القرآن أن الله لم يشأ أن يكون الإكراه وسيلة للتدين؛ إذ ﴿لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾. فإذا كان الله لم يشأ أن يكره الناس على الإيمان به وهو خالق الكون، فكيف يتسنى لمخلوق أن يُكره الناس على الإيمان بعظمتهم والمضي في مساراتهم.
(2) قول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ليس مجرد حكم تشريعي؛ بل تنبيه على حالة تكوينية في خَلْق الإنسان، تُشير إلى أن الإكراه لا يُنْتِج إيماناً؛ بل يخلق بيئة للنّفاق والمجاملة، ويتكون في ضوئه تياراً من أعداء ﴿ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾. لذلك لا يكتب الدوام لشيء مما بُني على الإكراه، سواء كان المُكره عليه فكراً أو سياسية أو نظام حكم أو حتى سلوك اجتماعي.
(3) بالحجة والبرهان أمر الله نبيه أن يخاطب الذين رفضوا الإسلام لأسباب فكرية، أو ردوا على أطروحاته وانتقدوا تشريعاته ولو حتى بشبه ضعيفة، فقال له: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. ولم يعتبر مجرد رفضهم أو انتقادهم لما جاء به من وحي السماء جريمة تستوجب العقاب والتّعنيف قبل الكشف عن الحجة الكاملة والبُرهان القاطع.
(4) يظل الخيار الأمثل – في حال عدم الاستجابة لأي دعوة – ترك الناس وشأنهم، فربهم يتولى شأنهم، ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾. حتى في مقابل التحدي والصلف ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾. لأن الآخرين إن لم يكونوا شركاءك في الفكرة أو الإطار الذي تنتمي إليه فإنهم شركاؤك في الوجود ومقومات الحياة.
(5) في ضوء ما سبق يمكننا القول بأن إكراه المخالف – في الدين أو المذهب أو أي توجه فكري أو سياسي – ممنوعٌ لكونه مجاف لمشاعر الفطرة ومحل قبح في نظر الدين، خصوصاً أن الدين قد جعل الدعوة بالحكمة والحوار باللين والجدال بالتي هي أحسن وسيلة لتسوية الخلافات الفكرية وطريقاً للتنقل فيما بينها، ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾. فالمتخبط الضال في مسالك الدين والدنيا هو من يلحق الضرر بنفسه فـ ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.
(6) أمر الله نبيه محمد – وهو أحد المعنيين بتبليغ الرسالة عن الله – بأن ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾. كل ذلك ليؤكد أن حسم الخلاف بين الفرقاء في الأمور القلبية والغيبية متروك لله ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
(7) تؤكد آيات القرآن والروايات والشواهد التاريخية أن العنف والقتال ليس خياراً مرغوباً فيه، بل كانت التعليمات تأتي بردع المتحفزين لتشريع القتال من المسلمين، كقوله تعالى: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، ولم يأذن بشيء من القتال إلا بعد تَوَفُّر المسوغ الإنساني والأخلاقي، على أن يتم في نطاق محدود، ووفق ضوابط وقيود صارمة.
فإذا لم يكن القهر والإكراه صواباً في التوجهات الدينية، فبالأولى ألا يكون صواباً في المشاريع الحركية والخيارات السياسية، وهذا ما نريد أن يصل إلى عقول وقلوب الحركات السياسية والمذاهب الدينية وجميع مراكز القوى المتصارعة، فقد آن للجميع أن يصغوا لمنطق الحكمة والعقل ويكفوا عن التنافس السلبي والمسارعة إلى إلحاق الأذى بكل من لا يتفق معهم، أو يمضي في ركابهم.