ذكرت في المقال السابق لهذه السلسلة والذي كان بعنوان (زهد إعلامي قاتل) كيف أن الزهد يجب تنحيته جانباً في العمل الإعلامي، وأن جوهر المشكلة الإعلامية لدى الإسلاميين هي الخلط بين العمل التربوي والعمل الإعلامي، وبتعبير أوضح؛ خضوع العملية الإعلامية لسلطان العملية التربوية وهيكلها التنظيمي..
مشكلة إعلام الإسلاميين
ذكرت في المقال السابق لهذه السلسلة والذي كان بعنوان (زهد إعلامي قاتل) كيف أن الزهد يجب تنحيته جانباً في العمل الإعلامي، وأن جوهر المشكلة الإعلامية لدى الإسلاميين هي الخلط بين العمل التربوي والعمل الإعلامي، وبتعبير أوضح؛ خضوع العملية الإعلامية لسلطان العملية التربوية وهيكلها التنظيمي..
وبشرح أوسع؛ أن يكون المسار الإعلامي بمراحله، وخطواته، وقياداته، وتعييناته، وخططه التشغيلية جميعها خاضعة للسلطان التربوي، وينسحب بالتالي على هذا سلبيات عديدة تنبت في لاشعور الصف الإسلامي مع مراحل تنشئته، منها:
الزهد المذموم، وأن من اقتحم الإعلام فهو على خطر عظيم، ففلاشات الكاميرا وتصفيق الجماهير رصاصٌ يصيب نيته وإخلاصه في مقتل، فالأولى الزهد فيه، وقد تكلمنا عن هذه الشبهة وفنّدناها بما يكفي في المقال السابق.
ومنها الاستعلاء التغييري في العملية الإعلامية، الحادث نتيجة التربية المستمرة بعيداً عن المجتمع، والانعزالية الروحية، والتطهّر النوعي، فينبت في لاشعور الصف الإسلامي أن الثلة المؤمنة هي أمثل من في الساحة في حراسة الشريعة وتبليغ الحقائق للناس والدفاع عن الحرية، والأقدر على العملية التغييرية بكافة وسائلها والتي أهمها الإعلام، وبالتالي الاعتماد فقط على قلة قليلة تقوم بالتغيير مع فقر الدعوة من الأساس، وحاجتها للمال والرجال، فتضيع بهذا طاقات كثيرة، كان يمكن الاستفادة منها ومن تأييدها من الخارج لتحقيق نفس الهدف، ولكن ضاع استيعاب مثل هؤلاء فخسرت الدعوة الكثير، ولا تزال تخسرهم، وتحقق أهدافاً محدودة وضئيلة، بسبب غياب ثقافة الاستيعاب لشرائح المجتمع، وكيفية الاستفادة منها في تحقيق التغيير الإسلامي المنشود….
فيكون التأخّر والسير ببطء، فيما الأحزاب الأرضية واليسار واليمين يسبقون الإسلاميين بمراحل طُوال في الوصول إلى الجمهور لاستفادتهم من كل من يخدم أهدافهم ولو كان من الخارج وعلى النقيض في الفكرة، ومثل هذا أكثر من ذكره أستاذ فقه الدعوة محمد أحمد الراشد-حفظه الله- وصاغ له رسالة (صناعة الحياة)، لكن دعاتنا لا زالوا لا يفقهون هذا، متمسكّين بقلة قليلة ضَعُفت وأضعفت!!
ومنها هدر الكثير من الطاقات الناشئة، ومن يعتبرهم الإسلاميون مسلمون درجة ثانية من الناشئة أو ممن هم خارج الصف، وإن كانوا لا يصدحون به، ولكنه نابتٌ في لا شعورهم ويمارسونه باستمرار، جيلاً بعد جيل بإسنادٍ سيءٍ متصل كما قدّمنا!! نتيجة المنهجية التربوية التي أغفلت التعايش مع المجتمع المسلم وحسن الاستفادة من طاقاته، فتراكمت الأخطاء، فينزل الدعاة إلى مجتمع متعدد الأطياف والفئات والأفكار، فيحصل التوجّس، وانعدام الثقة والخوف اللامبرّر له، ثم يعودون ينعزلون!
ولعمري كم أهدرت هذه المنهجية الخاطئة من طاقاتٍ جبّارة، كان لديها الاستعداد لخدمة الدعوة والعملية التغييرية كأكثر ممن هم منتمون لها، ولكن يصدمهم بهذا غُول الهيكل التربوي، ولوحة تحذيرية بيد كل تربوي (ليس منّا )!!! فيُهملوا ويكون ذلك في ميزان سيئات القائد التاريخي الذي لا يزال يتحرّك بعقلية: أنا وإخواني فقطّ ، ولو فَقِه عبارة الإمام الشهيد ( كم منّا وليس فينا، وكم فينا وليس منا ) لأدرك كم قتل من الطاقات حوله، وكم أضاع من أمانة حمل الرسالة، التي ينبغي أن تستفيد من كل قطرة دم وعرق ومداد لخدمة الإسلام.
ونظرة واحدة إلى النهج الذي خطّه أردوغان ورفاقه في هذه النقطة تحديداً، تُري دعاتنا الفارق الكبير، بين كسب الطاقات وصقلها لخدمة المشروع، ولو كان هناك بَونٌ شاسعٌ في الايدولوجيا، و بين قتلها والتفريط فيها، وخلق عداوات بسبق الآخرين لهم، ثم نجلس ننوح على المسارات الخاطئة بلا تحقيق أي إنجاز أو إنجاز محدود في الميدان!
ومن عيوب هذه المنهجية التخليطية بين العمل التربوي والإعلامي في الإجمال: إهانة التخصص؛ بأن يبقى العمل الإعلامي رهيناً في أيدي من هم في الصف الأول مثلاً ممن انحنت ظهورهم في العملية التربوية ونشر الدعوة، ولكنهم ليسوا من أهل التخصص، فيُوكل قيادة العمل الإعلامي لشيخٍ فقيهٍ مثلاً ليس هذا مكانه، أو مخضرم تربوي عريق، وبالتالي تُقتل المساحة الإبداعية لأهل التخصص الرئيس، أو لا يُسمح للعمل الإعلامي الخاضع لسلطانهم بصلاحية مفتوحة وفق رسالة عامة، أو تموت الأفكار اللحظية والوسائل المتجددة التي تطلب إبرازاً في الحال نتيجة انتظار القرار الإداري الهيكلي الذي يأخذ وقتاً ورتابة أحياناً…. وبالتالي تكون النتيجة واحدة من ثلاث : إما موت إبداع أهل الاختصاص وقتل طاقاتهم وتفريغها في الطريق الخطأ، أو شيوع الانتقادات اللاذعة وعزوف هؤلاء عن خدمة المؤسسة بسبب سوء العدالة التخصصية وتنصيب من يهرف بما لا يعرف!! والثالثة الصبر على مثل هكذا أخطاء واستمرار عملية الإصلاح بعيوبها، مع بطء شديد في الإصلاح!! وهذا ملاحظٌ ملموس!
ومن عيوب هذه المنهجية أيضاً أن تكون التعيينات القيادية مبنية على المسار التربوي كما هو معروف، وبالتالي، تضيع الرسالة الإعلامية، بين سوء فقه المخضرم في الإعلام، وموت هذا الناشئ النشيط بسبب غول الهيكل التربوي والمرتبة التي لم يتجاوزها بعد… فيتم تقديم الأقدم في الصف لقيادة الأكفأ ولو في غير مجاله، وهذه هي المشكلة الكبيرة، فالأقدم ليس دائما الأكفأ، بل الأكفأ والأنتج وصاحب التخصص هو من يُقدّم لريادة هكذا أعمال وفق منهجية واضحة، لأن العمل الإعلامي عملٌ مؤسسي مبنيٌّ على الكفاءة والإنتاج والمؤسساتية والتخصص، لا على الأقدمية والإيمان والتقوى والمرتبة القيادية، ومثل هذا يغيب بين ثنايا قرارات القيادات المتوارثة، فيُؤخر هذا ويُقدّم هذا، وبين هذا وهذا كما بين السماء والأرض إتقاناً للرسالة الإعلامية، فتضيع الطاقات ويضيّعون من يعولون!
كل هذه العيوب وغيرها، أهدرت الكثير من الطاقات الإسلامية، وجعلت الجهود الإعلامية مبعثرة، وقائمة على الجهود الفردية لا يجمعها جامع، بل ولا يُدرك العامل فيها إلى أين المسير! وإصلاح هذه العيوب واجبٌ ومطلبٌ ضروري عاجلاً غير آجل، يحتاج إلى قرارات شجاعة من القيادة وحملات ضغط من الأتباع لتصحيح مثل هذه المنهجيات التي أضرت برسالة المؤسسة وأضاعت معها الأهداف على المستويين القريب والبعيد.