قد تشهد المنطقة انتقالاً من دولة العسكر إلى دولة الطائفة إذا لم يتم وقف هذا العبث، فكل هذه الأدوات تتعاقب على قهر الشعوب وإذلالها والتحكم بمصائرها. ظلت الانظمة العسكرية هي أدوات الاستعمار الغربي في المنطقة العربية خلال قرن بعد (سايكس بيكو)، واستمر في دعمها بكل توجهاتها، وظل الغرب يحمي هذه الانظمة ويشرعن سلوكها الاستبدادي بالتغاضي عن جرائمها بحق شعوبها بوضعها خارج التقييم الجاد أو المحاسبة، وفق معايير الديمقراطية وحقوق الانسان باعتبارها جزءاً من قيم النظام العالمي الجديد الذي روجت له دول الغرب الرأسمالي.
حدث ذلك مقابل حماية هذه الانظمة العسكرية الاستبدادية لنفوذ الغرب ومصالحه في المنطقة، حيث أتى ذلك على حساب الديمقراطية وحرية الشعوب واستقلالها.
أما اليوم وقد أصبحت الحظوة لهندسة جديدة من الأدوات، وهي الانظمة الطائفية ودول الأقليات التي دشن الامريكان مشروعها بغزو العراق، وأصبح تثبيتها اليوم كما لو كانت مهمة غربية أمريكية مشتركة بكل اختلافات سياساتهم، ومصالحهم وتناقضاتها.
فبالرغم من أن النفوذ الغربي الجديد في المنطقة على اتفاق تام حول مبدأ التقسيم، إلا أن الأدوار المراوغة والمتباينة التي ما يزال الغرب يجيدها ظاهرة في ميوعة مواقفه تجاه الفوضى والعبث اللذان يعصفان بدول الربيع وباستقرارها، والتي يبدو أنها لن تتوقف عند حدود هذه الدول، بل أصبحت المنطقة برمتها تواجه خطر وجودي يحاول الغرب اعادة صياغته ورسم ملامحه الجديدة بورقة محاربة الإرهاب وشرعنة الطائفة كطرف شريك وأساسي في هذا المشروع العالمي، وكل ذلك يأتي على حساب الدولة القُطرية.
في اليمن مثلاً، لا يرى الغرب “صالح” أكثر من مجرد شرطي انتهت صلاحيات خدماته، إذ ينتمي لحقبة النفوذ القديم لدول (سايكس بيكو)، فالرجل الذي ما يزال يعتقد بأنه قادر على لعب دور مستقبلي، تصله الرسائل والاشارات المتعددة تباعاً التي ترسلها دول الغرب عبر ممثليها وسفرائها، تنصحه بأن عليه أن يغادر المستقبل طوعاً أو كرهاً.
“صالح” لم يفهم، أو لا يريد أن يفهم، بدوافع ذاتية، بأنه أصبح أداة منتهية لديهم ولم تعد صالحة للاستعمال مستقبلا، لقد انتهت مهمته بتسليم الجيش والعاصمة والمدن لمليشيا الحوثي التي يصنفها الغرب كواحدة من أدواته الطائفية مستقبلاً في المنطقة.
الأسد هو الآخر في سوريا سيغادر السلطة، كذلك، وهذا أمر حتمي سيقبل به الجميع، لكن، متى وكيف؟
متى؟
بعد أن تحقق الدول الاستعمارية رغبتها بتفكيك سوريا الهوية الجامعة إلى أكثر من سوريا، دول الهويات الفرعية ذات التركيبة الطائفية والقومية المتعددة.
هكذا هو السيناريو بعد تدخل روسيا، يحاولون الدفع باتجاه إعادة تموضع وإعادة توزيع لقوى النظام وحلفائه باسم مكافحة الإرهاب، أما ميدانياً فيحدث شيء مختلف، إنه تمكين مدروس لمليشيا الطائفة والعرق والقومية التي تفضي إلى تشكيل واقع ميداني مختلف يؤسس لدويلات للأكراد شمالاً، أو حكم ذاتي فيدرالي كالنموذج العراقي تماماً، أو حكم ذاتي للعلويين في الساحل الغربي.
كيف؟
سيجمع الحلفاء والخصوم على ضرورة رحيل الأسد والاستغناء عن خدماته بعد الانتهاء من المهمة؛ كل ذلك يحدث للتحايل على رغبة الشعوب المتطلعة لدولة الديمقراطية والمساواة، وذلك من خلال “تطئيف” الديمقراطية وإفراغها عن محتواها.
إن الغرب الاستعماري يدفع ويسند هذا التعاقب والانتقال القاسي والخشن بين أدواته القديمة والجديدة، والتي يهندسها لصياغة دولة ممانعة للديمقراطية، تصادر رغبة الشعب لصالح بارونات الطوائف.
قد تشهد المنطقة انتقالاً من دولة العسكر إلى دولة الطائفة إذا لم يتم وقف هذا العبث، فكل هذه الأدوات تتعاقب على قهر الشعوب وإذلالها والتحكم بمصائرها بالتحايل على رغبتها الدائمة المتطلعة لتأسيس دولة الحرية والعدالة والدولة الديمقراطية التي تقوم على تعريف الفرد كدالة مواطن لا طائفة.
ما يزال الغرب يصنف الديمقراطية في المنطقة عدو ونقيض لمصالحه وأمنه على المدى الاستراتيجي، لذلك لن يجد الغرب ضامناً لهذه المصالح بعد الأنظمة العسكرية إلا تمكين الأنظمة الطائفية وفق خارطة جيوسياسية مختلفة، والتي ستجعل من الشعوب قطعاناً متناحرة خلف نخب فاسدة مرتهنة، تعزز من كونها أنظمة خدمية للاستعمار على حساب المصالح الوطنية والقومية.. العراق نموذجاً.