ستبقى بيتنا بغير ترميم كي تلهج بخرابكم كل الآناء، لكن ماذا عن ريحة أبي فيها؟ حبات عرقه؟ نطف وضوئه، مصلاه؟! والعتبة التي تختزن ضحكاته، وحكمه المقصودة؟ وكيف بإمكاننا أن نوثق خرائب الروح، واندثار الأعماق، وخواء الداخل بفعل المليشيا الحوفاشية؟
كيف لنا أن نلتقط الرجفة وهي تستحوذ على قلوب النساء؟! أو الخوف وهو يكتم أنفاس حرية الرجال وسخرية الشباب اليانع؟!
كيف سنستطيع تجسيد ملحمة الفجيعة والحزن والضياع والفقد والانهيار التي تلتها كل القلوب في زمن الحرب المليشاوية المذلة المعتمة؟
ستبقى بيتنا بغير ترميم كي تلهج بخرابكم كل الآناء، لكن ماذا عن ريحة أبي فيها؟ حبات عرقه؟ نطف وضوئه، مصلاه؟! والعتبة التي تختزن ضحكاته، وحكمه المقصودة؟
دفنت ابن أختي، لا شيء يخلده أو يجسده أو يعيده، ماذا عن قلب أمه؟ كيف أركنه في متحف أسود؟ كيف أجعل الأزمان والأكوان تتهجى بصمتكم عليه: تشرخاته، تهتكاته، ولهه، ذكرياته، دماه المدرارة، عويله وكتمانه، وخوفه من كل خبر؟!
ماذا عن هجرة عينيها إلى البعيد؟ وعن تمتمات شفتيها المتشققتين ظمئا وحزنا؟ وعن حزنها المسمر على حضنها وصوتها ومشيتها المتهالكة؟ كيف أقرطس كل هذا لتشرب منه نخبها الأجيال؟
على قبر قصي ثمة شاهد حجري منحوت عليه: لا تقبروناش؟ حفظتها ذاكرة الكاميرات والمواقع والقلوب لتحيي الحقد المقدس الذي لابد منه ضد كل طائفي قاتل مختل..
لكن كيف لنا أن نوثق أمنيات فريد التي كانت تنمو في قلبه؟ وخيالاته عن القبر التي كانت تأكل أعماقه؟ ورعبه المتجدد كل وخزة أبرة وكل صوت جهاز وكل أحساس بالدوار، وكل اختناق؟
من يقدر أن ينسج رقعة لرجاءاته وذكرياته وخططه المخبوءة وانتظاره للذي ليس يدري؟! رقعة للهفة أمه، وخيبتها، لوجع جدته، وفقدانها الثقة بالحياة، لأبيه وهو يصارع في داخله الخذلان، خذلانه لأمنية ابنه الأخيرة: لا تقبروناش!!!
رجل مبتورة، ورجل صناعية متكئة على سرير، وبجوارهما فتاة في أجمل الطفولة وفي ري الحضور، كيف لنا أن نسمع أذن الكائنات خرير ألمها العذب؟ تصدعات أنوثتها، وجيب وجلها، ضجيج خيبتها، وحسراتها وهي ترتسم تحت كل خطوة وعلى كل أرض؟! وكيف لنا أن نبروز قهرنا حين يلذعنا سؤالها المشروع: ماذا ستقول زميلاتي حين يرينني بساق واحدة؟!
مات طفل صديقي، ولم يكن حظه من الحياة سوى سطرين: “رزقت بمولود” ثم بعد ساعات كان السطر الثاني: “إشهد يا الله، مات ابني لأننا لم نجد له دبة أكسجين في كل مستشفيات تعز”.
كيف لنا أن نحفظ فقد الأب في كل زفير على طاولة للعرض، أو نعلِّق فقد الأم كل شهقة أمام كل إنسان؟ كيف لنا أن نبني حائطا من أكسجين مفقود كي يبكي أمامه كل من يمر، ليدرك هوة الطائفية وصنيع البرابرة وهول بعض البشر!! أو كيف لنا أن نستحضر لحظة الاختناق الأخيرة، كي يذوق الجميع جريمة الخذلان!!
على جسد رجل جمهوري، تحتضن يده عصا تسد عرجة رجله التي نالها وهو يدفع عن اليمن الوقوع، أكثر من ثمانين طلقة ومن مسافة صفر!! تخلَّد اسمه في تاريخ اليمني كـ “باب دون الفتنة وحين كُسر دخلت”، وعرف الجميع أن عصاه كانت تتكئ عليها الجمهورية وحين سقطت سقطت.
كيف يمكن أن نلتقط نظرة عينيه لحظة السقوط؟ أو ابتسامته الأخيرة لحظة تأكدت له الخيانة؟ سخريته منهم وهم يستفرغون غوايتهم المقدسة فيه وفيهم يستفرغ حقيقتهم الأكيدة؟ ومن يخلِّد شهقته الأخيرة حين هووا وصعد؟ وحين أردوه فوصل؟ وحين قتلوه فاستأثر به الخلود!!
ستستمر الحياة، سيعود الوطن، سيضحك شعب المواطنة المتساوية الضحكة الأخيرة، ستخلد جرائم المليشيا والقتلة والمجرمين وكل من سكتوا، وستبقى الآثار الأعمق خضراء في ذاكرة الأحياء، وباهتة في سفر الحياة.. هي أشياء لا تخلَّد، وليته كان ممكنا كي لا تجرب الأجيال القادمة جهنم المليشيا الطائفية والحاكم المجرم والصامتين!!!