بكل بلاهة غافلة عن الأولويات، وبمستوى غير طبيعي من خفة العقل؛ يستسيغون الحديث الضاج والصاخب عن الاستقلال والانفصال في الجنوب، بينما الإرهاب والسلاح المنفلت ينتشر ويتغلغل في كل الاتجاهات هناك.
بكل بلاهة غافلة عن الأولويات، وبمستوى غير طبيعي من خفة العقل؛ يستسيغون الحديث الضاج والصاخب عن الاستقلال والانفصال في الجنوب، بينما الإرهاب والسلاح المنفلت ينتشر ويتغلغل في كل الاتجاهات هناك.
إنها أعلى مستويات النزق طبعاً.. النزق الذي لا يضع أدنى اعتبارات موضوعية وعقلانية للممكنات وللمتاحات وللعقبات وللصعوبات الداخلية، كما لحساسية الإقليم وللمجتمع الدولي من القضايا المستجدة في اليمن، ما سيقود إلى خيارات جلها قاسية ومكلفة في الشكل والمضمون، بل وتضرب القضية الجنوبية في الصميم.
ثم إن الزمن مختلف والمآزق مختلفة وأكثر تعقيداً، وأما من يفقد السياسة والتنظيم والرؤية العميقة فلابد أن يفقد كل شيء.
لكن الحمقى والسذج والبلاطجة في الجنوب هم من يصممون على ضياع القضية الجنوبية العادلة، فليس بالانحياز للإرهاب المتفشي أو بـ”تطنيش” مخاطره على الجنوب، كما ليس بتكريس جماعات السلاح المنفلتة وعدم تقوية مؤسسات الدولة أو بالعنصرية التي تمارس ضد شماليين بسطاء و أبرياء من ارتكاب أي مظلمة ضد الجنوبيين؛ بإمكان هؤلاء أن يقنعوا أنفسهم و العالم بعدالة قضيتهم ومشروعهم الناضج لانتصارها.
والأخطر أن الساحة الفوضوية في الجنوب اليوم تفتقد للعقلاء وللكبار الذين يتوجب عليهم رفع صوتهم الحكيم لترشيد الجنون المندلق، والحث على وضع مشروع جنوبي جامع ضد التطرف والعصبوية الخرقاء، فضلاً عن المشاركة في إدارة الدولة القائمة بمسؤولية كبرى إلى حين وضع حل وطني عادل للقضية الجنوبية يرضي الجميع في الداخل والخارج.
ذلك أن للجنوبيين مصالح مشروعة ومشتركة مازالت مع الجمهورية اليمنية، وهي المعترف بها دولياً.. شاءوا أم أبوا
والعكس أيضاً.
أما القفز عن هذه الحقيقة بتصرفات هوجاء ومأزومة فسيمثل القيمة السلبية الفارقة والقاصمة التي سترتد على القضية الجنوبية أكثر من أي شيء آخر.
ولذلك، فإن استمرار الحال برؤية مشتتة ومسدودة وعبثية وغير ايجابية لن يؤدي أبداً إلى جنوب حر وديمقراطي ومدني وفاعل كما يأمل أو يتخيل الغوغاء، وإنما إلى العكس تماماً، بل إلى ما هو أبشع.
بمعنى آخر، سيستمر إفساد وحرف القضية الجنوبية بمصالح امراء الإرهاب والخراب والشمولية، كما ستؤدي تداعيات الانكشاف الأخلاقي والهستيريا الدموية إلى تحسر جميع الذين انحازوا للقضية الجنوبية لافتقادها أكثر من أي وقت مضى لأولئك الملهمين الذين كانوا يناضلون بوعي وحكمة، ولكنهم صمتوا كقادة في اللحظات الفاصلة، ثم انزاحوا من المشهد ليتقدم الأنذال والصغار فقط.
وهكذا عملوا بمنتهى الاستخفافات والحسابات الخاطئة ضد قضيتهم، أو فرطوا بها بكل رعونة وطيش؛ ليكتشفوا بعد فوات الأوان طبعاً، فقدان القضية الجنوبية في ظل ضياع الجنوب نفسه وغرقه في طوفان اﻵثام والشرور التي زينت لحفنة انفعالية وانفصامية فيه باعتبارها هي الفضائل الحقيقية والوحيدة التي ستجلب السعادة والتحرر للجنوبيين في نهاية المطاف.
والحال أن التوجه المستمر والحثيث الآن هو إثخانه بالمزيد من التعاسات والإعاقات الممنهجة ليس إلا، في ظل انكفاء كل الشعارات الأخلاقية والسياسية إلى الهامش.
لكن المؤسف حقاً هو تعدد مظاهر كل أنواع الشطط في جنوب البلاد، الأمر الذي لا يعكس أزمة هوية فقط، وإنما يعكس أزمة لا هوية أيضاً.
ذلك أن عزل الجنوب عن يمنيته الخالدة ليس في صالح متطلبات وشروط حل القضية الجنوبية حلاً عادلاً في المستقبل.
إلا أن أصحاب التوجه الشططي الأخرق والبائس هذا لا ينظرون للجنوب ككيان متكامل وبشخصية سياسية تعززها وحدته الموضوعية في المعادلة الوطنية، وإنما ينظرون إليه ككيانات مفتتة مثلما كانت حالته قبل جلاء الاستعمار.
فالمؤكد أن من أسوأ دلالات ومدلولات نغمة “الجنوب العربي” تعاليها على كل المهام النضالية الجنوبية الكبرى ضد الاستعمار ومشاريعه التفكيكية ما قبل الوطنية وهو تعالٍ سخيف وقاصر لا ينم عن أدنى مسؤولية بالطبع.
فحتى مع التحوﻻت الهائلة التي طرأت على مدى عقود واثخان الجنوب بمشاكل معقدة وملتهبة، فإن مطلب الإنفصال واستعادة الدولة السابقة للوحدة -الدولة التي يرفع علمها في الجنوب منذ سنوات -يجب أن يتكفل بالضرورة ببقاء الهوية السياسية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية موحدة على الأقل، ولا يعني ذلك أن تكون دولة اشتراكية كما في الماضي في حال فرض الجنوب الاستقلال مثلاً، وإنما كما يرى الاشتراكي نفسه عبارة عن كيان ديمقراطي متمدن على عكس كل الحماقات التطرفية والشمولية المتهورة والتعيسة التي صار ينتمي لها معظم مرضى الزعامات في الجنوب منذ مدة.
ويبقى من البدهي القول إن التاريخ لن يغفر استسهال تكريس هوية كيان الجنوب العربي بهذا الشكل الشططي الذي يحفز في الوجدان حالة الجنوب المشرذم بكياناته المتعددة والمبعثرة البائدة التي فشل الاستعمار في تثبيتها حتى جاء من يبعثها لصالح فكرة اللادولة واللامواطنة، بينما لا يحن لتلك الحالة العدمية غير الباعثة للاعتزاز سوى أزلام الوعي السلاطيني العصبوي والانتقامي الدفين فقط.
المهم.. رحيق التقدير لكل جنوبي ناضج لا يستسيغ منطق هؤلاء المخزي والمزري، لأنه يفهم طبيعة الصراع المعقد والتحولات الناشبة، إضافة إلى ما يفتقده الواقع، فيما يكافح بوعي ديمقراطي دؤوب-وبلا حزازات شمولية او عنصرية من اي نوع – من أجل واقع مستقر في الجنوب يفضي إلى مجتمع دولة ومواطنة وحداثة وتمدن كما ينبغي، وليس إلى نكبة لا قبلها ولا بعدها نكبة في الجنوب.
بمعنى آخر، حين يبدأ كل جنوبي في نقد أوهام العقل الجنوبي، سيبدأ في وضع خطوته الاولى في الطريق الطويل.. المعركة معركة وعي أساساً فماهي الدولة التي يريد استعادتها من يزعقون اليوم مثلاً، بينما كل قيم الواقع الصادمة تدور في مجال مغاير ومختلف مثخن بالترديات على كل المستويات.