مقتضى الفطرة إلى جانب نتائج التجربة تجعلنا نجزم بأن أصل الدين لم يُلزم الناس بنمط واحد من أنماط الحكم؛ وإنما دعا إلى العمل على تشكيل نظام يمنع الفوضى ويقوم على العدل والإحسان، بصرف النظر عن التفاصيل التي تتطلبها ظروف وأحوال المرحلة، والتي يمكن مراعاتها دون أن تُفرض كأحكام شرعية لازمة. سألني صديقي: «ماذا تقول اليوم لمن لايزال يمارس الغلو والتشدد في مسألة الإمامة وحصرها في البطنين، مع أنها فكرة بائدة لا تناسب العصر والمشروع الوطني الديمقراطي الجامع»؟
فقلت له: الفطرة التي جاء الشرع متوافقا معها، تقتضي أن القيام بأي دور سياسي في الحياة لا يتطلب وجوب وجود صفة لا أثر لها في القيام بالمَهَمَّة، فالمهارة في الكتابة أو القراءة، أو صحة الاستنتاج، لا تتوقف على لون بشرة الأشخاص، أو مكان مولده، والاستقامة والانحراف والنجاح والفشل، لا يتعلق بجنسية الرَّحم الذي وَلَد، أو القبيلة التي احتضنت، وإن كان لذلك أثر تربوي غير حَتمي. كما تقضي التجربة أن متطلبات حياة البشر تختلف باختلاف الزمان والمكان، مما يفرض وجوب اختلاف قدرات ومؤهلات القيّمين عليها، حسب نوعية المجتمع وزمانه ومكانه.
فمقتضى الفطرة إلى جانب نتائج التجربة تجعلنا نجزم بأن أصل الدين لم يُلزم الناس بنمط واحد من أنماط الحكم؛ وإنما دعا إلى العمل على تشكيل نظام يمنع الفوضى ويقوم على العدل والإحسان، بصرف النظر عن التفاصيل التي تتطلبها ظروف وأحوال المرحلة، والتي يمكن مراعاتها دون أن تُفرض كأحكام شرعية لازمة.
وعلى هذا فما قيل ويقال عن اشتراط انتماء الخليفة أو الإمام إلى عائلة معينة لتكون خلافته شرعية إنما هو مجرد رأي سياسي وجدل اجتماعي أفرزته ظروف التنافس على السلطة والنُّفوذ ولا علاقة له بالدين.
والقول بصحة الولاية (بمعنى الزعامة) لكل كفء قادر على تسيير شؤون الناس هو ما يمثل البقاءٌ على الأصل، فلا يلزم فيه إقامة دليل، كونه مستندا إلى جملة من الثوابت الدينية والمنطقية، منها:
(1) أن الله تعالى ذم إبليس حينما أطلق أول نظرية عنصرية، زعم فيها أن خلقه من عنصر مخصوص يجعل له قيمة تميزه على من سواه، فقال عندما أُمر بتعظيم آدم ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾[الأعراف: 12]. وورث نظريته طواغيت البشر، واستغلوها للاستعلاء والتكبر، وفي ظلها سَحَق المتسلطون المجتمعات وامتهنوا كرامتها.
وحينما جاء الإسلام أعلن في الناس جميعاً قاعدة تقضي بالاحتفاظ بتنوّع خصوصيات الإنسان العرقية والعائلية واللغوية والجغرافية، على أساس أن غايتها إغناء الإنسانية بالتنوع للوصول إلى التكامل، مؤكداً أن تلك الخصوصيات لا تعطي الإنسان قيمة روحية تقرّبه إلى الله، ونبه على أن التنوع التكويني لا يمنح فريقاً من الناس حق الاستعلاء على فريق آخر، ولكن الكفاءة والتقوى هي وحدها التي تملك القدرة على الارتفاع بمكانة الإنسان وتميزه على سواه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات: 13]. فاتضح من خلال ذلك أن دعوى الاختصاص بالإمامة على أساس عرقي لاحق بالدعوات العنصرية التي مقتها الإسلام، ونص القرآن على ذمها، وما كان كذلك فلا يجوز اعتباره جزءاً من الشريعة الإسلامية.
(2) أن مجمل الشروط المطلوب توفرها في الخليفة نوعان: أحدهما: ما يتوقف الوفاء والكمال بالمقصود من الخلافـة عليه، كالبلوغ والعقل وحسن التدبير وسلامة الحواس، ونحوه مما لا يتم المطلوب من الخلافة إلا به، فهذه تعد شروطاً لازمة أوجبتها طبيعة المنصب، ولا تحتاج إلى استدلال. وثانيهما: ما لا يتوقف المقصود من الزعامة عليه، كاشتراط نسب معين، أو الأفضلية على جميع الناس، أو العصمة، فهذه لا يمكن اعتبارها شرطاً إلا بدليل شرعي خاص به. وإلى ذلك أشار العلامة المقبلي رحمه الله بقوله: «إن مدار الإمارة على ما يحصل به مقصودها الذي شرعت لأجله، وما زاد على ذلك فهو دعوى، تفتقر للدليل، هذا هو الحق وإن وَرِمَت هناك أنوف».
(3) أن الأمر بتنصيب الخليفة ورد مطلقاً، فيكون لمن يتم به الغرض، من أي نسب كان، إلا لدليل شرعي يوجب اشتراط نسب معين، وإلى هذا أشار الإمام عز الدين بن الحسن بقوله: «وإيجابها على الإطلاق دليل واضح على جواز نصب كل صالح لها، ولا يحتاج إلى دليل آخر».
(4) أقوى أدلة القائلين بشرط القرشية عموما أو الهاشمية خصوصاً لا ترتقي إلى مستوى الاستدلال على مسألة ظنية كالمضمضمة والاستنشاق، فضلاً عن المسائل التي يتعم بها البلوى علماً وعملاً.
والحكام والزعماء لا يحتاجون إلى شرعنة ما يريدون من السياسة؛ إذ العبرة بما يصلح شأن الناس بصرف النظر عمن يقوم عليه، فما بعث الله الرسل ولا أنزل معهم الكتب إلا ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، لا يحتاج الصالح أن يقول: إن الله قد ولّاني عليكم وفوضني في أمركم.