اخترنا لكمكتابات خاصة

ثم أتموا الصيام إلى الليل

 

بمناسبة تكرار الجدل حول هذه الآية كل عام، وخاصة في اليمن مع طرح بعضهم أن الليل لا يتحقق بغروب قرص الشمس، وإنما بالظلام الذي يأتي لاحقاً بعد الغروب ومعه يتحقق مسمى الليل، وهذا الرأي مطروح في المذهب الجعفري وقريباً منه في المذهب الزيدي، وطرحه بعض المعاصرين ممن ينتمي إلى إحدى المدارس القرآنية، حيث اعتبروا أن من يفطرون بعد غروب الشمس مع أذان المغرب غير متحققين بالصيام ومن ثم فصيامهم لا يصح، وبتأمل معنى الليل مع آيات أخرى جاء فيها ذكر الليل، وكذلك ضمن السياق العرفي لمصطلح الليل ومعناه في اللسان العربي واستناداً للتواتر العلمي يتضح أن رأيهم غير صحيح.

وهذا جملة من الشواهد والقرآن تؤكد أن الليل يبدأ بعد غروب قرص الشمس:

أولاً: قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) والليل جاء في الآية مطلقاً فشمل أوله وأوسطه وآخره، بينما جاء الليل في آية أخرى مقيداً بغسق الليل (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) وغسق الليل هو اشتداد ظلامه بعد ذهاب الشفق، ولو كان لفظ الليل يعني الظلام لما قيدها بالغسق، فعرفنا أن لفظ الليل حين جاء مطلقاً فإنه يشمل زمن الشفق كاملاً ابتداء من غروب قرص الشمس، وعليه فمن أفطر بعد غروب الشمس فإنه قد دخل ضمن الليل بمفهوم العام، ولو كان المطلوب هو اشتداد الظلام لقيدت كما في الآية الأخرى بالغسق.

ثانياً: يقول تعالى في آية أخرى: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) وقد اختلف المفسرون هل المقصود بالعسعسة إقبال الليل أم إدباره، بينما قال بعض اللغويين أنه من المشترك المعنوي أو من الأضداد، وقال الزجاج: عسعس الليل إذا أقبل. وعلى كلا التفسيرين للعسعسة فإن الآية قد اعتبرت الضوء المتداخل في العسعسة سواء كان إدباراً أم إقبالاً جزءاً من الليل بحسب الآية، برغم أن معناه بالأقبال هو الأقرب والأليق بالآية، قال الآلوسي: “قيل: هي لغة قريش خاصة، وقيل كونه بمعنى أقبل ظلامه أوفق بقوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ فإنه أول النهار فيناسب أول الليل”. تفسير الآلوسي 15/262. وعليه فقد اعتبروا الشفق الذي يكون قبل شروق الشمس ضمن النهار، بينما الشفق الذي يأتي بعد غروب الشمس ضمن الليل.

ثالثاً: لا يصح الاستدلال بقوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) بأن الليل لا يكون إلا مع رؤية الكوكب أي النجم، لأن الآية لا تذكر أن رؤية الكوكب كانت في أول دخول الليل، وإنما في عموم الليل وهذا يعني أنه رآه بعد دخول الليل بزمن، ولا يوجد في الآية ما ينفي أن فترة الشفق داخلة ضمن الليل.

رابعاً: يقول رشيد رضا: “(ثم أتموا الصيام إلى الليل) فهم من غاية وقت الأكل والشرب في الجملة السابقة مبدأ الصيام. وذكر في هذه غايته وهي ابتداء الليل بغروب قرص الشمس وما يلزمه من ذهاب شعاعها عن جدران البيوت والمآذن، ولا يلزم أهل الأغوار والقيعان ذهاب شعاعها عن شناخيب الجبال العالية بعيدة كانت أو قريبة، وإنما العبرة بمغيب الشمس في أفقهم الذي يتلوه إقبال الليل”. [تفسير المنار 2/143].

ويقول المراغي: “(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أي ثم استمروا في صيامكم إلى ابتداء الليل بغروب قرص الشمس وما يلزمه من ذهاب شعاعها عن جدران البيوت والمآذن، ويتلو ذلك إقبال الليل”. [تفسير المراغي 2/79].

ويقول ابن عاشور: “قوله: (أتموا الصيام إلى الليل) بيانا لنهاية وقت الصيام.. وإلى الليل غاية اختير لها (إلى) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى لا تمتد معها الغاية بخلاف حتى، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل”. [تفسير ابن عاشور 2/184].

خامساً: من أهم ما يمكن الرجوع إليه في هذه المسألة ما يقوله أهل اللغة في معنى الليل، فالنص القرآني نزل بلسان العرب، والليل في كلاب العرب: عُقيب النهار، ومَبْدَؤُه من غروب الشمس.

جاء في “المحكم والمحيط الأعظم” (10/396) لابن سيده: “اللَّيْلُ: عقيب النهار، ومَبْدَؤُه من غروب الشمس”.

وجاء في “القاموس المحيط” (1364) للفيروز آبادي: “اللَّيْلُ: من مَغْرِبِ الشمسِ إلى طُلوعِ الفَجْرِ الصادِقِ أو الشمسِ”.

وجاء في “لسان العرب” (11/607) لابن منظور: “اللَّيْلُ: عقيب النهار، ومَبْدَؤُه من غروب الشمس”.

ومنطقاً فاليوم يتكوَّن من قسمين اثنين: الليل والنهار، ولا ثالث لهما. وهما يتعاقبان دون أن يدخل بينهما مسمَّى آخر، وإذا لم يكن الوقت نهارا فهو ليلٌ بالضَّرورة، ولمَّا لم يُعقل تسمية الوقت بعد غروب الشمس نهارا فلزم على وجه اليقين تسميته بالليل.

سادساً: هذا المعنى في لغة العرب هو ما كان عليه النبي عليه السلام وصحابته، إذ جعلوا غروب الشَّمس علامة على بداية الليل، يدل على ذلك إجماع المذاهب السنية، أما الشيعة فقد جاء هذا المعنى في بعض كتبهم منسوباً لجعفر برغم أن رأي التأخير للإفطار هو المشهور عندهم اليوم.

فقد روى بعضهم عن جعفر الصادق قوله: “إذا غابت الشمس فقد حل الإفطار ووجبت الصلاة”. “من لا يحضره الفقيه” (1/142)، “وسائل الشيعة” (7/90).

سابعاً: التقويم الفلكي يبدأ الليل فيه من غروب الشمس.

ثامناً: قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ) [هود:114]: هذا الآية توجه بإقامة الصلاة طرفي النهار، وقد ذهب البعض إلى أن طرفي النهار هما الفجر والمغرب، ثم استدل بها بعض المعاصرين على أن المغرب ضمن النهار، وما دام ضمن النهار فكيف نفطر فيه، والآية تقول: ثم أتموا الصيام إلى الليل؟

وهذا الاستدلال لا يصح لأن الرأي الأكثر شهرة والأدق لفهم الآية هو الذي يقول إن طرفي النهار هما الفجر والعصر –وهو قول غالبية المفسرين -فالفجر أول النهار قبل الشروق والعصر آخر النهار قبل الغروب، وهذه الآية -كما يرى الفقيه الشافعي الرازي- ترجح مذهب أبي حنيفة في وقت صلاتي الفجر والعصر، فمذهبه مختلف عن الشافعي في كليهما إذ يؤخر الفجر إلى بداية الصبح، وهو ما يسمى بالإسفار، بينما الشافعي يقيم الفجر قبل ذلك فيما يسمى بالتغليس. ويؤخر أبو حنيفة العصر حتى يصير ظل الشيء مثليه، بينما يدخل العصر عند الشافعي حين يصير ظل الشيء مثله. والفارق يصل لأكثر من ساعة في المذهبين عند صلاة العصر.

يقول الرازي وهو فقيه شافعي: ” إذا عرفت هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة رحمه الله في أن التنوير بالفجر أفضل، وفي أن تأخير العصر أفضل، وذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب إقامة الصلاة في طرفي النهار، وبينا أن طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس، والزمان الثاني لغروبها، وأجمعت الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة، فقد تعذر العمل بظاهر هذه الآية، فوجب حمله على المجاز، وهو أن يكون المراد: أقم الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار، لأن ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه، وإذا كان كذلك فكل وقت كان أقرب إلى طلوع الشمس وإلى غروبها كان أقرب إلى ظاهر اللفظ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطلوع من إقامتها عند التغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظل كل شيء مثله، والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى، فثبت أن ظاهر هذه الآية يقوي قول أبي حنيفة في هاتين المسألتين”. التفسير الكبير ج18/ص59.

وقوله تعالى: ﴿وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ﴾ تؤيد الرأي الذي يقول بأن طرف النهار الثاني هو العصر، فالزلف واحدها زلفة، وهي الطائفة من أول الليل لقربها من النهار، والمراد بالزلف من الليل الأوقات القريبة من الليل، وهذا ينطبق تماما على صلاتي المغرب والعشاء، فواحدة بعد الغروب وأخرى بعد ذهاب الشفق، وهو رأي أغلب المفسرين أيضاً. ولو كان المغرب هو طرف النهار لبقيت صلاة واحدة وهي العشاء، وبالتالي لن يتسق مع لفظ الجمع ” زلفاً” وإنما سيتسق معه اللفظ المفرد “زلفة”، ولما جاءت الآية بلفظ الجمع وكان أقل الجمع اثنين، لزم أن تكون المغرب داخلة في قوله “زلفا” حتى تشمل المغرب والعشاء، وبناء على ذلك يلزم أن يكون طرف النهار الثاني هو العصر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى