الحجة (عزيزة)، امرأة عصامية في الخمسينات من عمرها، من قرية (الصياحي) الواقعة بين ميلات جبل حبشي، وحذران التعزية؛ وبسرعة فائقة أصبحت عزيزة إحدى معالم المقاومة بالمنطقة بشخصيتها القوية والمؤثرة ونشاطها المتميز وحبها واخلاصها للمقاومة.
الغمامة عزيزة
بعد تراجع الجيش الوطني والمقاومة من (عقاقة)، جنوبي مدينة تعز إلى (الضباب)، تمدد نحو منطقة حذران والربيعي، شمال الضباب، وصولاً إلى طريق الحديدة تعز، وهي منطقة مفتوحة صارت مسرحاً دائما لمعارك شرسة، وعمليات كر وفر.
تحولت تلك القرى إلى حاضنة اجتماعية، والتحق شبابها بالمقاومة؛ لم تتأخر الحجة (عزيزة) عن الالتحاق بالمقاومة، فقد كانت تبشر بها، وتدعو لها قبل قدومها إلى القرية.
الحجة (عزيزة)، امرأة عصامية في الخمسينات من عمرها، من قرية (الصياحي) الواقعة بين ميلات جبل حبشي، وحذران التعزية؛ وبسرعة فائقة أصبحت عزيزة إحدى معالم المقاومة بالمنطقة بشخصيتها القوية والمؤثرة ونشاطها المتميز وحبها واخلاصها للمقاومة وأفرادها، حيث كانت غالبا ما تحرسهم من سطح بيتها القريب، وتسهر خوفاً عليهم كما تخاف الأم على أولادها!
أكثر ما كان يثيرها هم العملاء الذين ينقلون أخبار المقاومة، وتعتبرهم أخطر من المعتدي.
تقول (عزيزة) في اجتماع لنساء القرية: التعاون والتعامل مع الحوثي خيانة، وقتل لنا كلنا، والذي يخون نعلق أبوه فوق شجرة (العلب)… مؤكدة على دور نساء القرية في فضح ومراقبة هؤلاء ودعم المقاومة.. و”انتن أعرف بالقرية، هذا واجبنا يا اخواتي”.
كانت تتحدث كما يتحدث القائد، بثقة كبيرة.
— نعم اختي عزيزة احنا (المكالف) مثل الرجال تماماً، نستطيع نكون مقاومة، تقول سلمى.
– ايوه يا سلمى، دورنا أكبر، احنا أساس المقاومة.
علينا أن نشد أبناءنا وأزواجنا يقعوا رجال، ويسجلوا بالمقاومة، ونحن معهم ما يصلحش نقع متفرجين…
الموت مكتوب وما حد شرجع بطن أمه ثانية.
وتضيف (عزيزة): أني اليوم وديت ابني وشجعتوه وراح للمقاومة، والله كم أرتاح قلبي وارتفع رأسي وأني أشوفه (مبندق) بالسلاح يدافع عن القرية، ويحارب اللي اعتدوا علينا إلى بيوتنا…
مو عنهم هم (وحوش) وحنا (أرانب)؟!
تتحدث (فاطمة) معترضة بلطف: أنا معك عمه (عزيزة) بكل شيء، لكن أخلي ابني يروح يقاتل وودوه إلى التهلكة بيدي ما يصلحش ولا شقدر.
— لموه يا فاطمة؟ واللي يقاتلوا مش عيالنا وإلا ثانيين …. ؟ وإلا إحنا جازعين طريق مش من البلاد؟ وإلا تقولي أولادنا مش رجال؟ أقلكن خافين على (عيالكن) من المذلة والاهانة مش من الموت!
الموت لا جاء أهلا وسهلا به قضاء وقدر.. وابني أشرف له يموت أسد ونسر، ولا يموت (عسيق) و (دجي ذاغر)!
— سلمى: والله صدقك وعزيزة صدقك.
نسيبي ابن اختي (غصون)، روح نازح هو وجهاله من المدينة، هربوا من القصف بعد ما قتلت أسرة كاملة من جيرانهم بصاروخ، لكنه أمس مات وهو يتغدي، ويضحك، اقتلب ومات وكان صحيح فصيح!
– اني (حميسك) و(سلمى) هيا خبريهن، الله يرحم نسيبك كان رجال، ولو هله شنشوفه بمقدمة المقاومة لكن نأخذ عبرة..
الموت هو الموت مسجل ومرقوم.
كانت عزيزة بحركتها وكأنها تؤسس في القرية لمقاومة صلبة بروح جديدة.
ومع اشتداد المعارك، زاد دور عزيزة التي قامت بدور أساسي بتزويد مواقع المقاومة بالطعام بشكل شبه مستمر.
قال (عبده الوافي)، وهو قائد مجموعة في المقاومة: كانت (عزيزة) تقوم بأكثر من دور، إضافة لتزويدهم بالطعام، كانت تزور المواقع وتحمسهم بشكل عجيب؛ عندما كانت تشعر بحاجتنا إلى الطعام نهارا أو ليلاً، ندري وهي والطعام بجانبنا، وعندما لا تجد تعطينا اللبن وأحيانا بسكت، وعصير تشتريه من الدكان.
عرفت بين المقاومين بـ(الأفندم) عزيزة؛ ولأن الجبهة جبهة جيش بالغالب، فـ(الأفندم) يعني هنا القائد. بينما كان المتحوثون يطلقون عليها فيما بينهم العقيد (عزوز)؛ إشارة إلى أنها تقوم بدور ضابط الاستخبارات بسبب حصارها وتتبعها ومضايقتها لحركة المتحوثين وتجنيدها للنساء لمتابعة ومحاصرة حركتهم، فهي تعرفهم جيداً وتذهب إليهم تنبه وتقنع وتحذر بحرص.
عندما تمادى أحدهم في التواصل مع الحوثيين، وضبطته يزود الحوثيين بمعلومات عبر التلفون، لم تتردد في الإبلاغ عنه ليقبض عليه فوراً.
كان الضغط على جبهة ميلات – حذران الربيعي، شمال الضباب، مكثفا. أحضر صالح والحوثي جيشاً وأسلحة ثقيلة، وصواريخ كاتيوشا، وكانت دوما ما تحرق الأرض حول المقاومة.
المعركة تجري بشكل مستمر، وكانت (عزيزة) لا تنام، تتحرك مع المقاومة في كل الاتجاهات وتزور المواقع، وكأنها قائد عسكري من الطراز الأول، وغالبا ما تتواصل مع قائد الجبهة الشمالية في الضباب العقيد (عبد الغني الحياني) الذي كانت ترى فيه قائد محنكا وشجاعا.
ذات ليلة، عندما اشتد الهجوم، خطر في بالها أن ثغرة في المكان فارغة من المقاومة، يمكن أن يلتف منها المهاجمون إلى خلف موقع المقاومة، ذهبت فوراً وسط المعركة لتقابل قائد الموقع الذي لم يتردد في مقابلتها، رغم جو المعركة الملتهب، فهو يعلم من هي عزيزة!
قالت له وبلغة حاسمة: خلوا اثنين أو ثلاثة في (زغط) الاكمة.
ذهل قائد الموقع، فالثغرة فعلاً خطيرة، وكأنه أمام خبير عسكري!
اختار ثلاثة من أفراد الموقع، وأخبرهم بدورهم وأهمية الثغرة، وزودهم باللازم من المؤنة، وصدق حدس عزيزة فقد تم الالتفاف من قبل جماعة الحوثي من نفس المكان وتم ضربهم وافشال الهجوم.
ومع مرور الوقت، زادت قيمة وموقع (عزيزة) أو (الأفندم عزيزة) أكثر في نفوس أفراد الجيش والمقاومة، فهي تتحرك في كل الاتجاهات بطاقة مؤثرة واخلاص عجيب!
استمرت (عزيزة) تعمل مثل النحلة لا تكل ولا تمل وبحنان وحرص لافت، فهي امرأة لا يعجبها الانكسار مهما كانت النتائج.
عندما حضرت إلى أحد مواقع المقاومة، وجدت المجموعة منكسرة ومهمومة، كان زميل لهم قائدا قد استشهد، فأثر في نفسياتهم وبدا الانكسار واضحاً.
بمجرد أن رأتهم خبرتهم بحس وحدس الأم، وروح القائد:
حالكم معجبنيش يا عيالي، موفي؟ مو بكم مفسرين ومهطبلين آذانكم؟ أنتم مقاومة اشتدوا.
قال محمد و بصوت حزين: أخونا أحمد استشهد يا خالة.
نزل الخبر عليها كالصاعقة، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها أمامهم:
أيوه شهيد الله يرحمه!
شوفوا ياعيالي.. أنتم عارفين أن الشهادة بكل ملوى ومخلف، إحنا النساء عندما يستشهد ابن والا زوج والا أخ، نزغرد.. إيه نزغرد وأنتم دارين!!
لم تكن عزيزة تتحدث من فراغ، فقد استشهد ثلاثة من اقربائها احدهم ولد بنتها.
انصرفت وهي تغالب دموعها قائلة: تعلمنا منكم يا مقاومة، قوموا ياعيالي لأنتم تحبون (أحمد)، الله يرحمه، شدوا أنفسكم، وكبروا واستعدوا، وعمر الجبل ما يهزه ريح.
قال محمد: كنا في المجموعة، وكأننا مربطين بسلاسل، فجاءت (عزيزة) تفك الرباط، وتنعشنا من جديد وتغسل الحزن، وتعطينا جرعة من الحماس والنشوة.
كان الفقي عبده دائما ما يقول: إن الحجة (عزيزة) أثرها بمائة مقاوم؛ لإخلاصها وقوة الروح
والإصرار الذي لا يفتر لديها.
انصرفت عزيزة وهي تتظاهر بالتماسك، والحقيقة إنها تكاد تسقط، فهي حنونة وعطوفة.
ذهبت وهي تتمتم: حسبنا الله ونعم الوكيل، الله يوجع قلوبهم مثل ما أوجعوا قلوبنا، محاولة إخفاء دموعها التي تنسكب بغزارة على الشهيد (أحمد) التي تعرفه جيدا، وهي التي دائما ما تحس بأنها فقدت فلذة كبدها كلما ارتقى شهيد.
شاع صيت عزيزة أو (الأفندم) عزيزة عند المقاومة، وأصبح وجودها مظهرا من مظاهر الأمان اليومي، هي بجانبهم كلما احتاجوها، وكلما حمي الوطيس تكون حاضرة في المواقع وخلفيات المتارس، كانت دائما ما تلح على قائد المجموعة لتدريبها على السلاح، وعندما أصرت؛ قال لها يا خالة (عزيزة): لو أعطيناك سلاح سنكسب مقاتل، لكن سنخسرك ونخسر دورك، أنت الآن أفضل. المقاتل سنجده لكن خالتنا عزيزة أين نجدها؟
كادت (عزيزة) أن تنهار من الحزن على غير العادة عندما وصلها خبر استشهاد قائد الجبهة العقيد (عبدالغني الحياني)، فقد حزنت عليه واعتبرت غيابه ضربة للمقاومة التي تسري في دمائها وتتحكم بعواطفها.
توالت المعارك، وزاد ضغط الهجوم على المنطقة، وكانت قلة الذخيرة هي المشكلة المشتركة في كل الجبهات، ونقاط الضعف القاتلة. وبعد معركة طويلة تقدم الحوثيون إلى قرية (عزيزة) بعد انسحاب المقاومة منها.
ولم ينس قائد الموقع أن يبلغ عزيزة بالخروج من القرية، فهي مطلوبة من الحوثيين مثل أي قائد في الجيش والمقاومة.
قائد مجموعة الحوثيين أخذ يتحدث: (عزيزة) هذه خبيثة، وتقوم بدور كتيبة.
كانوا منزعجين منها خاصة دورها في بث الحماس والتضييق على مصادر المعلومات، وشبكتهم التي حاولوا تشكيلها قبل قدوم المقاومة.
أثناء انسحاب المجموعة، بدأت (عزيزة) تتهيأ للخروج من القرية، وعند خروجها رأت أحد المقاومين وهو جريح ينزف، وبدون تردد عادت لإسعافه، وعندما حاولت حمله، أطلق عليها مسلح حوثي الرصاص لتسقط بدمائها بجانب الجريح.
كانت القرية في هذه اللحظة خالية تقريبا من الرجال بعد انسحاب المقاومة.
لتسرع فتاتان بإسعاف (عزيزة) والجريح معا، ونجحتا في اسعافهما فعلاً، ولم تكن هاتان الفتاتان سوى بنتي عزيزة نفسها.
في اليوم التالي جلس الجريح خالد على سريره بعد أن نجحت عملية الإسعاف، ووقف نزيف الدم، لكنه هذه المرة ينزف دموعا ويبكي بمرارة!
لقد استشهدت عزيزة أم وأب المقاومة، و(الأفندم) والقائد.
و بقى الجريح خالد يغالب دموعه التي تتساقط كلما ذكرها حتى اليوم.
استشهدت عزيزة؛
في 27 أغسطس 2015، اهتزت القرية والمنطقة، وقلوب قادة وأفراد الجيش والمقاومة الذين عرفوها، فهم لا يتصورون غياب الأم و (الأفندم) عزيزة، السند والروح والمراقب، بكاها الجميع واعتبر قادة المقاومة غيابها خسارة محزنة.
وعند ما حملوا جثمانها لتشيعها إلى مقبرة قريتها، رفض الحوثيون دفنها بالقرية.
قال قائد المجموعة الحوثية وبتبجح: ممنوع؛ هذه داعشية كبيرة ارموها، لا قبر لها!
منعوا دفنها في مسقط رأسها، وهي عادة الطغاة مع الأبطال وكبار الثوار الذين منعوا من الدفن في أوطانهم.
لم تتأخر الجنازة كثيرا، فكل قرى وقلوب جبل حبشي والضباب فتحت لروح عزيزة، التي دفنت في قرية (ميلات) القريبة، والمحزن أن استشهادها جاء بعد استشهاد العقيد (الحياني) بأربعة أيام فقط.
شيعها الناس رجالا ونساء، جيشا ومقاومة، وبدا الجو كئيباً على غير العادة في نظر أفراد الجيش والمقاومة الذين فقدوا أماً استثنائية ومقاومة جسورة؛
وظهر المكان والزمان يهمي حزناً والطير والأشجار تبكي (عزيزة) المجاهدة الطاهرة، التي عرفها الجميع محسنة ومضحية، محبة للناس ولقيم الحرية والكرامة.
شيعت كزعيم وطني، لها في كل قلب مأتم.
بعضهم وصل متأخراً، وبدا أحدهم يسأل: هل دفنتم ( الأفندم عزيزة)؟
يتأمل الأستاذ عبدالرحيم ويقول:
لا، لم ندفن (الأفندم عزيزة)، وإنما دفنا (الغمامة عزيزة)!!
قال الجريح وهو يبكي بحرقة: إيه والله (الغمامة عزيزة)، هذا أصدق وصف يا أستاذ، بس كيف تدفن الغمامة؟!