الأغنية التي كبرت
عامر السعيدي
عندما كانت هذه العصفورة تطير في الفضاء البعيد بأجنحة غضة وصوت طفولي يكاد يقطر منه الضوء قبل أن تسيل الموسيقى، كانت قلوب كثيرة ترفرف خلفها وتضبط نبضها على إيقاع الصوت الملائكي الهادر كالحب والهاديء كمطر الصباح.
لقد وقفت اليمن كلها على قدم واحدة في جلال أغانيها الأولى التي ملأ سحرها ما بين المحيط والخليج.. وقفت اليمن فخورة وطروبة وراقصة كما لو أنها تنتقم من الحرب بالسلام القادم من حنجرة ماريا قحطان كدعاء الأمهات وابتهالات الفلاحين في الحقول.
لقد كنت كملايين اليمنيين مفتونا بصوتها ومنحازا ليمنيتها ومبتهجا بمرحها وخفة دمها وجمال روحها وهي تذهب في الغناء كأنها أول من غنّى وتصعد في القلوب والأرواح كأنها بنت كل قلب وفاكهة كل مساء ونور كل بيت في اليمن، وحين عادت من شاشة البرنامج بالدموع، حطّت على أشجار الدهشة كالندى.
كانت ماريا شمعة في ليل الحرب، آنست أيامنا وأضاءت لنا السبل والدروب لعلنا نخرج من الموت، الموت الذي ظل جاثما على صدورنا ورابضا في طرقاتنا ومطبقا على أعيننا منذ سنوات، ومنذ سنوات لم يخفت بريق الشمعة التي أضاءت في الليل البعيد، ولا تلاشى سحرها، ظلت تعلو، حتى أصبحت نجمة لامعة، وهي تعلو كل يوم أكثر، لتكون قمرا موسيقيا ساطعا ملء مسامع وعيون الدنيا.
لا أكتب اليوم لأني لقيت ماريا بالصدفة في المطعم، ولا لأنها تعرفت علي أيضا، وليس من أجل خاطر صديقي عمران شهبين الذي لو لم يكن مديرا لأعمالها وصاحبا في سفرها لم تلاقينا صدفة بعد أن فرقتنا سنوات الحرب السبع، ولا من أجل صاحبي الجليل محمد العمراني وهو يستعيد لها ذكرياتها في بيروت فتندهش كأنها تحدث للتو، وليس أيضا استعراضا لصورة الشاعر بجوار القصيدة المتوجة بالنغم..
أكتب لسبب يتشاركه معي الملايين، أكتب محبة وإيمانا بفنانة خُلقت كاملة منذ نعومة أوتارها المشدودة في أول عود، أكتب للصوت الذي أيقظ الطفولة في أعماقنا، وأخرج الجمال إلى الشوارع والسطوح وشواطيء البحر وأعالي الجبال ومراعي الغزلان والوعول، وإلى الصحراء بالقرب من التاريخ ونقوش المسند بالمعبد والعرش حيث أعيش في مأرب، في المدينة التي تضج بأغاني المحاربين وأناشيد أيوب للوطن، وبصوت ماريا الذي يتمشى معي في شوارع مأرب كما لو أنني الغاوي الوحيد أو الطروب الأخير الذي ينظر له العابرون باستغراب وهو يغني تحت صور الشهداء كأن الحرب قد ماتت في الزمن الغابر..
أكتب لأنني رأيت فيها فرحة كل اليمنيين بها حينما أطلّت من الشاشة مع كاظم الساهر في ذا فويس كيدز كما لو أنها اطمئنان وسَكَينة نزلت بالتساوي على قلوب المتخاصمين في وطنها المثخن فجمعتهم على أغنية سواء.
السلام على ماريا، أغنيتنا التي كبُرتْ.
غنّي
فِدى فمك البلادُ
وكلّ أغنيةٍ فِدى