في صورته التي انتشرت، قبل أيام في معظم وسائل التواصل الاجتماعي، بدا الشاعر الكبير، مظفر النواب، على غير هيئته التي عرفه بها جمهوره العربي في كل مكان، فقد ظهر هزيلاً زائغ النظرات، مرتجف اليدين مطأطئ الرأس، مستسلماً في صورته التي انتشرت، قبل أيام في معظم وسائل التواصل الاجتماعي، بدا الشاعر الكبير، مظفر النواب، على غير هيئته التي عرفه بها جمهوره العربي في كل مكان، فقد ظهر هزيلاً زائغ النظرات، مرتجف اليدين مطأطئ الرأس، مستسلماً لمساعدات مرافقيه الذي يبدو إنه يعتمد عليهم في الغدو والرواح، وهي صورة متوقعةٌ، في ملامحها، لشخصٍ تعدى الثمانين عاماً، وقد تكالبت عليه أمراض الشيخوخة المعتادة، بالإضافة إلى ضعف ذاكرته تحت وطأة الزهايمر كما يقول الخبر المرفق معها. لم يمنعني هذا كله، وأحسبني لست وحدي، من الشعور بالأسى تجاه شاعرٍ تكوّنت تجربته الشعرية كلها في خضم الصخب الجماهيري، وأشكاله المتحدية للسلطة المتمثلة بكل الأنظمة العربية الحاكمة، هجاءً قاسياً، وشتماً مقذعاً، وسخرية لاذعة.. وأحياناً بكاء مريراً.
صحيح أن لكل شاعر حقيقي صورة متفرّدة بالضرورة، إلا أن صورة مظفر النواب بقيت بالغة التفرد، ليس في المقياس النقدي البحت لإمكانات قصيدته من الناحية الفنية وحسب، بل، أيضاً وأولاً، في مقياس الواقع الذي عرف من خلاله الشاعر سجيناً ومحكوماً بالإعدام، ثم شريداً طريداً متنقلاً بين المنافي، قبل أن يستقر به المقام تحت جناح أحد أكثر الأنظمة العربية ديكتاتورية وتخاذلاً في سورية.
رداً على انتقاداتٍ طالت هجائياته الوطنية، غير المسبوقة في اتكائها على البذاءة اللفظية، قال مظفر، في لحظة هدوء نادرة؛ “يتهمني بعضهم بأنني مبتذل وبذيء، أعطني موقفاً أكثر بذاءة منا نحن فيه”. ولم يستطع الصحفي الذي كان يجري معه الحوار آنذاك أن يعطيه موقفاً أكثر بذاءةً، مما كنا فيه، نحن العرب، آنذاك، لكن تحدّي الشاعر ظل قائماً، ويتفاقم في حجمه ومستواه يوماً بعد يوم، وسنةً بعد سنةً، وثورةً بعد أخرى. ولا أدري إن كان الزهايمر قد سمح للشاعر أن يعي ما يجري منذ ست سنوات تقريباً في خريطة الأمة العربية، من أحداثٍ تنوعت، في تداعياتها ومآلاتها، ليقرّر إن كانت تلك التداعيات والمآلات مما يمكن الحكم عليه بأنه أكثر بذاءةً من قصائده أم لا، لكننا نقرأ الآن تلك القصائد التي وصفت بالبذاءة، في ظل ما تنتجه وسائل التواصل الاجتماعي يومياً، من بذاءاتٍ حقيقيةٍ وطازجةٍ، فنشعر أن مظفر لم يفعل شيئاً سوى أنه عبّر، بموهبته الشعرية المتدفقة، عما تكنه صدور الجماهير من شتائم، تجاه كل شيء، نقمةً على وضعها المتدني في سلم التقدم الحضاري للأمم والشعوب.
اقترنت قصائد هذا الشاعر الثائر، منذ ظهوره وظهورها، بصوته المتهدج ما بين البكاء والصراخ، فلم تكن مما تنشره الصحف والمجلات آنذاك، وبالتالي، كانت الوسيلة الوحيدة يومها لانتشارها تسجيلها صوتياً في أمسياتٍ أحيا أغلبها في عواصم غير عربية، أو في جلساتٍ محفوفةٍ بالأصدقاء في ليالي الغياب المرير بالسهر وملحقاته الممنوعة أيضا. وحافظت تلك التسجيلات على مكانتها في قلوب عشاق الشعر الممنوع، والتحدّي المحفوف بالمخاطر الأمنية، بغض النظر عن مستواه الفني، حتى تغيرت الأحوال، ولم تعد القدس وحدها عروس عروبتنا المغتصبة، وفقا لتعبير مظفر النواب الأشهر.
منذ ثلاثة عقود تقريباً، ومظفر، الذي جمعت تجربته الشعرية بين الرهافة البالغة في غزلياته والقسوة الشديدة في هجائياته، غائب عن مسرح الشعر، على الرغم من ظهور قصائد قليلة له في تلك الفترة، أبرزها قصيدته الجميلة في رثاء ناجي العلي، وهي من القصائد النادرة جدا له التي نشرتها الصحافة العربية التي لم تكن لتجرؤ على نشر قصائده، حتى الغزلية الخالية من بذاءة الهجائيات السياسية، وبعدها غاب كثيراً وطويلاً، حتى ظن كثيرون أنه رحل عن دنيانا.. وها هو الآن يعود في لحظةٍ، تشبه لحظات الوداع اليائسة، ومساءات الخريف الموغلة في كآبة الشجن.. كزمن عابر ومتناقض.. مو حزن.. لكن حزين.
نقلا عن العربي الجديد