كتابات خاصة

الانتحار والفلسفة المادية للحياة

د. عبدالله القيسي

تعيش اليمن أسوأ ظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا ينعكس على حال كثير من الناس ونفسياتهم، وبالذات فئة الشباب الذين يجدون أن الأبواب قد سدت في وجوههم أينما اتجهوا، فلا حياة كريمة ولا حريات ولا فرص للعمل ولا مناخ للتعليم، حتى صار همهم الكبير هو فقط أن يحافظوا فقط على حق الحياة، أي حياة كانت!!

تلك الظروف وتلك البيئة المرهقة قد توقع أحدهم في شباك الاكتئاب وقد لا توقعه، لأن الاكتئاب له أسباب كثيرة تتعاضد، وقد يحدث أن يصاب بالاكتئاب من يعيش ظروفاً جيدة، كأن يصاب بصدمة عاطفية مثلاً، فإذا دخل الشاب حالة اكتئاب بأي سبب كان فإن الحياة تسود في وجهه وتظلم، وتتحول إلى جحيم، وخاصة حين يكون الاكتئاب شديداً.

يصنف الاكتئاب كواحد من أهم أسباب الانتحار، بل هو في بلداننا العربية وخاصة اليمن يأتي على رأس القائمة، لأن الأسباب الأخرى المذكورة في الكتب العلمية أقرب للبيئات الأجنبية، ولذا أركز باستمرار عند حديثي عن الانتحار في اليمن على حالات الاكتئاب أو الحالات النفسية الأخرى التي يتداخل معها الاكتئاب، كـ “ثنائي القطب” و”الفصام” الذي يخالطه اكتئاب، فهذه كلها حالات نفسية شديدة تجعل صاحبها يفكر بالانتحار.

حالات الاكتئاب منتشرة عالمياً ومعها تزداد حالات الانتحار، أما في بلداننا العربية فبرغم أن نسبة الاكتئاب تساوي النسبة العالمية أو قد تزيد عنها في حالات الحروب إلا أن حالات الانتحار أقل! وهذا يعني أن هناك كوابح ثقافية تجعل الفرد يتردد كثيراً أو يخاف من الإقدام على الانتحار.. فبرغم أن الاكتئاب يزداد في البلدان التي تنتشر فيها الحروب والمآسي إلا أننا نجد أن حالات الانتحار في بلدان مستقرة وذات دخل مرتفع تكون أكبر، فاليابان مثلا تصنف كواحدة من أعظم الدول ارتفاعا لنسبة الانتحار وهذا يعني أن هناك عامل آخر يتدخل في الأمر ويكبح من الانتحار أو يحد منه.

ما لاحظته مؤخراً أن نسبة الانتحار زادت قليلاً في مجتمعنا اليمني، ربما يعود ذلك للأوضاع التي انحدرت في السنوات الأخيرة وربما يعود لعامل آخر رافق ذلك، وربما يعود لكليهما، ولكن ما هو هذا العامل؟

باعتقادي أن نظرة بعض الشباب للحياة وفلسفتها قد اختلفت عن الرؤية الإيمانية السابقة، بفعل قناعات فكرية راجت في عالم التواصل الاجتماعي له أسباب كثيرة بعضها صادق وبعضها زائف، بعضها سياسي واقتصادي وبعضها معرفي، وكان أحد أسبابها ما تكاثر من أسئلة وجهت إلى الفكر الديني لم تكن بهذه الصورة من قبل، وقد تم التعامل مع تلك الأسئلة بخفة لا تناسب حجمها وثقلها، فأسئلة الوجود تحتاج لموازنة حكيمة، وليست بهذه الخفة التي يعتقدونها، ويأتي على رأس هذه الأسئلة أسئلة وجود الشر وحجمه، وانتظار تدخل إلهي لتخفيفه أو إزاحته، فإن لم يكن ذلك فالإلحاد هو الحل!!

كل هذا دفع أولئك الشباب لتبني وجهات نظر مختلفة عن الفلسفة الإيمانية للحياة، فاتجهوا بوعي أو بدون وعي لفلسفة مادية للحياة أفقدتهم المعنى للحياة،  فأزاحت عنهم ذلك الكابح الذي مثل جداراً أمام تسريع مشكلة الانتحار..

لا يمكن أن أتغافل عن الفارق المهم بين وجهتي نظر تقول إحداهما: لا يوجد إله ولا تدخل إلهي ولا حياة بعد الموت، وإنما هي هذه الحياة فقط فإنما نسعد فيها أو ننهيها، ولا شر في أن ينهي الإنسان حياته ما دامت تعيسة، فلا هو مجرم بحق نفسه ولا هو محاسب بعد الموت على ذلك، وبين وجهة نظر أخرى تقول: هناك إله يرانا ويراقبنا، ويحاسبنا على أفعالنا، وينهانا عن قتل أنفسنا مهما حصل، وأن جسدنا أمانة عندنا حتى يأتيه الموت، وأننا بعد الموت نحاسب، وأن هناك حياة أخرى قد تعوضنا عن شقائنا وتعاستنا وعذابنا في هذه الحياة.

وبغض النظر عن مدى تماسك إحدى الرؤيتين إلا أن ذلك مؤثراً في قرارهم انتهاء حياتهم، ولذا كان بعض علماء النفس والاجتماع يدعون إلى عدم هدم الدين حتى لو لم يقتنعوا به، وذلك لما يعمله من طمأنة للنفس، ومعنى للمجتمع وتماسكاً بين أفراده.

ربما يقول قائل ولكن كيف سأقتنع بالفلسفة الإيمانية إن كانت هشة وضعيفة؟ ولهؤلاء أقول: إنها ليست كذلك، وذاك وهم ستتجاوزه إن تعمقت أكثر في براهين وحجج الفلسفتين، فهناك فلاسفة ومفكرون كثر كانوا في صف فلسفة الإيمان، ولو أننا اتجهنا لهم فإننا سنجد أن فارق النقاط في فلسفة الكون والحياة يغلب معهم، إن حجم الأسئلة المطروحة على الفلسفة المادية كثيرة جدا، وحجم الثغرات فيها كبير، ولكن الشباب لا يتجه لذلك، وإنما يعمل العكس، فيظل يحفر في توسيع أسئلة الإيمان دون الالتفات لضعف وهشاشة النظرية المقابلة، فيقع في فخ اللامعنى، وإذا كانت الحياة بلا معنى ولا قيمة، فإبقاؤها وإنهاؤها سيان في حالة التعاسة والاكتئاب، ولو أننا على الأقل فكرنا تفكيراً براجماتياً لقلنا لأنفسنا ما دمنا في حالة بائسة واكتئاب فلماذا لا نقوي ذلك الجدار الذي يمثل آخر سور لكبحنا عن إنهاء حياتنا..

هناك توسع غير طبيعي لخروج الشباب من الفلسفة الإيمانية لفلسفة الإلحاد والمادية، وهذا برأيي هو ما استجد مؤخراً في العقد الأخير، ولا أستطيع إغفال ذلك في تسريع عملية الانتحار، لا أقول سبباً مباشراً، وإنما تسريع واستسهال لعملية الانتحار عند من يفكر فيه، لقد عايشت شخصيات كثيرة مكتئبة، وكنت أجد أن الخوف من قتل النفس، والخوف مما بعد الحياة من جزاء كان حاجزاً قوياً أمامهم برغم أنهم وصلوا لأقصى درجات التفكير بالانتحار، ثم بعد مدة تجاوزوا محنة الاكتئاب وعادوا لحياتهم وتحسنت ظروفهم، وربما رجعوا بإرادة أقوى وتجربة أعمق في الحياة، واكتسبوا مع تلك التجربة حساً مرهفاً تجاه الناس تجعلهم ينظرون بإنسانية عالية تجاه الناس جميعاً، وتجاه من يمرون بنفس التجربة، أو من هم أخف منها، أو من يمر بأي ظرف قاس في الحياة .. وأستطيع القول إن هناك مشاريع إنسانية كثيرة لمشهورين كانت بعد خروجهم من تلك التجربة الصعبة، وأحيانا أثناءها، ثم تجاوزوا ذلك بصبر ساعة.

**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.

*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى