آن فرانك وأخواتها في الحرب العالمية الثانية
يمن مونيتور/القدس العربي
أكثر من سبعين سنة مرت على رحيل آن فرانك، التي هاجرت مرغمة مع عائلتها، من ألمانيا إلى أمستردام، وقضت عامين مختبئة في قبو، تفادياً للاضطهاد الذي مارسه النازيون، عاشت في العتمة قبل أن يُكتشف أمرها ومن معها، ويلقى القبض عليها، نقلت إلى محتشد المعتقلين، حيث لقيت مصرعها، بعد أن خلّفت مذكرتها في الاختباء، وفي مقاومة الحرب والنازية، ذلك الكتاب الذي جعل منها أيقونة، فقد تُرجم تقريباً إلى كل اللغات، واقتبس في المسرح وفي السينما، وكل سنة تصدر طبعات جديدة منه. آن فرانك التي لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها عند وفاتها ما تزال تشغل بال الناس، حكايتها لم تفتأ تتجدد كل مرة، لكن هذا العام حصل أمر جديد، صدر كتاب سرعان ما ترجم إلى كثير من اللغات، وأثار جدلاً ولغطاً، نقصد به كتاب: «من وشى بآن فرانك؟» للكندية روزماري سوليفان، الذي يطرح فرضية جديدة عن ظروف وملابسات، ومن تسبب في الوشاية التي أودت بحياة الكاتبة الصغيرة.
الحقيقة ونقيضها
يكاد لا يوجد شخص لم يقرأ، أو على الأقل لم يسمع عن مذكرات آن فرانك. ملايين النسخ بيعت منها في مختلف أرجاء العالم، بالتالي حين يدعي شخص أنه بات يعرف من وشى بها، فالأمر سيفضي إلى جدل، بين مصدق له ورافض لفرضيته. تميل روزماري سوليفان، في كتابها، الذي صدر بداية هذا العام، أن موثقاً يهودياً، وبغرض حماية عائلته من النازية، وتجنيبها الترحيل، وشى بعائلة آن فرانك وكشف مخبأهم، كما وشى بآخرين أيضاً. فبعد ست سنوات من البحث، ومن مساءلة مؤرخين ومن بقي من الشهود، توصلت الكاتبة إلى هذه الفرضية، معتمدة أيضاً على شهادة أفادها بها مخبر سابق في اﻠ«أف. بي. آي». بل تذهب روزماري سوليفان إلى كشف اسم من تعتقد أنه الواشي: آرنولد فان دير بيرغ.
لاحقاً، في الكتاب نفسه، تخبرنا هذه الكاتبة الكندية أن عنصر «أف. بي. آي» الذي أتاح لها هذه المعلومة، استند إلى رسالة كتبها والد آن فرانك (الذي نجا من المعتقل) إلى هذا الموثق الهولندي، يتهمه فيها بالوشاية. هل يمكن أن نعتبر هذا الدليل كافياً؟ كتاب «من وشى بآن فرانك؟» ترجم إلى ثلاث لغات، حال صدروه، بين متحمس له، ومرتاب منه، الكثيرون صدقوا ما ذهب إليه من فرضيات، بحكم أن روزماري سوليفان، استندت إلى وثائق ملموسة، مع ذلك فإن التحفظات تهاطلت أيضاً، ما حتم على ناشره الأصلي التوقف عن سحب نسخ إضافية منه، إلى أن يعيد التأكد مما رجحته روزماري سوليفان، وبعد التشاور مع مؤرخين، ومهما يكن قراره في الأيام المقبلة، من إتاحة الكتاب مرة أخرى أو حجزه، فهذا الإقبال الواسع على الكتاب، والجدل الذي رافقه، يؤكد مرة أخرى مكانة آن فرانك وأهميتها، فقد كانت سبباً في فتح باب كتابات سيرتية أو متخيلة عن فتيات أخريات شاركن أو تحملن تبعات الحرب العالمية الثانية، على غرار الكاتبة السلوفينية تانيا توما، في روايتها التاريخية «كرز أبيض وأحمر».
على الجبهة اليوغسلافية
واحدة من أسوأ لحظات الحرب العالمية الثانية وقعت في يوغسلافيا سابقاً، لاسيما سلوفينيا، ففي الأربعينيات انقسم البلد إلى طرفين، أحدهما موالٍ لدول المحور والثاني مقاوم لها، دخل في ما يشبه حرب أهلية، ترويها تانيا توما في روايتها، مركزة سردها على شخصيتين، على فتاتين، تتابع تطورهما خلال الحرب: آدا وفاليريا، الأولى فضلت جبهة المحور، والثانية انضمت إلى المقاومة. شخصية فاليريا قد تحيلنا بالضرورة إلى شخصية آن فرانك، بحكم تعدد نقاط الشبه بينهما، لقد كانت (آن فرانك اليوغسلافية) تختلف عن آن فرانك الأصلية قليلاً في العمر، وأيضاً في أنها انخرطت في المقاومة المباشرة، الاثنتان تصوران شكلا من أشكال المقاومة النسائية للنازية والفاشية. فاليريا القادمة من بلدة صغيرة على الحدود مع إيطاليا، التي شهدت غزو الفاشية، قبل أن تنتقل إلى العاصمة ليوبليانا وتلتحق بالشيوعيين في المجابهة المباشرة مع المحتلين، تختصر سيرة فتيات ونساء شاركنها ذلك التاريخ المتفجر، الذي عرفته يوغسلافيا في أربعينيات القرن الماضي.
تانيا توما
«كرز أبيض وأحمر» رواية تحتشد برائحة الموت، وصخب الحرب والشعور الدائم بأن مكروها سيحصل في أي لحظة، لكنها أيضاً رواية في تأمل سبل النجاة من الحرب، كلما اقترب فيها الموت من شخصياتها، تذكرنا بزهور الكرز، التي كانت تتفتح إلى جانبهم، تلك الزهرة البيضاء والحمراء بألوان مقاومة الفاشية، نصادف في هذه الرواية العديد من الشخصيات الأخرى، لكن محور الحكي، يظل يدور حول فاليريا، من فتاة بريئة، في بدايات العمر إلى مقاومة في انتقال حاسم في حياتها، جعل منها رمزاً، مثلما حوّلت الحرب العالمية الثانية آن فرانك إلى رمز بين نساء القرن الماضي. آن فرانك جعلت الكتابة سبباً في الخلاص من النازية، بينما فاليريا وهبت للمقاومة جسدها وعقلها، اختلف الأسلوبان لكن المرأة واحدة، لم تكن حرب رجال وحدهم، لم تكن حرب بطولات ونياشين وتماثيل تمجد الجنود، بل أيضاً حرب نساء، نساء مجهولات، فتيات وأخريات في أعمار أكبر، نسيهن المؤرخون لكن تانيا توما نفضت الغبار عن سيرهن. رواية عن التعذيب وعن الجنون في حرب مزقت أحشاء العائلة الواحدة في الجبهة اليوغسلافية، رواية الخلاص من الفاشية على يد نساء نادراً ما نسمع عنهن، نسوة ارتبط تاريخهن بتاريخ بلد بمجمله، بل هن من صنع التاريخ العام للبلد، وإن كنا نعرف آن فرنك، فمنهن أخواتها على جبهات الحرب الأخرى؟ فتيات أخريات قاومن، بينهن من ماتت، وبينهن من واصلت العيش بعد الحرب كي تروي سيرتها، لا بد أن شخصية فاليريا في هذه الرواية واحدة منهن، واحدة من أخوات آن فرانك، اللواتي أهملهن التاريخ لكن الأدب استعادهن من مستنقع النسيان.
روائي جزائري