جون بوبيرو ونقد العلمانية المُزيَّفة (2/2)
في كتابه “العلمانية المزيفة” ينتقد بوبيرو العلمانية الجديدة (المزيفة) بأنها استخدمت قناع العلمانية لكراهية الأجانب، بينما كانت العلمانية التاريخية مرنة مع مهاجرين تشبثوا بتعاليم الكاثوليكية كما عملت في مدن الشمال الفرنسي، وذلك لأنها تركت مهمة إحداث تغيير تدريجي في موقفهم لمفعولات السيرورة الزمنية، مع احترام اختلاف إيقاع التطور بين الأفراد والجماعات، والمراهنة على الدينامية الاجتماعية، وهو ما لا تريد “العلمانية الجديدة” القيام به، ولا تعرف كيف تقوم به، بسبب غباء بعض أصحابها، أو بسبب العداوة الواعية أو اللاواعية لدى بعضهم للأجنبي، أو للسببين معاً.
إن رفض الغيرية والأقليات بحسب بوبيرو يصدر في غالب الأحيان عن فرنسا التي ترفض قيم ثورة 1789م، ففي إحدى الندوات التي نظمت في يوليو 2011م حول قضية درايفوس، ساوى ستيفن إيرلاندر رئيس مكتب جريدة نيويورك تايمز في باريس بين معاداة السامية في فترة قضية درايفوس نهاية القرن التاسع عشر، وبين معاداة الإسلام أيامنا هذه، ورأى أن أصحاب العلمانية الجديدة يستبدلون المسلمين باليهود، وأن النزعة القومية الفرنسية لم تعد تتخفى وراء قيم دينية بقدر ما أضحت تتخفى وراء قيم علمانية. وأن العلمانية الجديدة لا تحتمل التعدد الديني وتمارس تمييزاً ضد الأقليات الدينية، بل هي تتموضع داخل منطق علمانية ذات نزعة غاليكانية جديدة.
وينقل عن بعض اليسار وصفه لهذه العلمانية بأنها علمانية موجهة بالأساس ضد المسلمين. فقضية مثل قضية الحجاب وغيرها من الحوادث المتعلقة بالمسلمين يتم وضعها في الواجهة وتحويلها إلى “قضايا رئيسية”، مع أن آلاف الحوادث تحصل يومياً في الحياة الاجتماعية دون أن تغدو موضوع لأي تغطية إعلامية، لكن بعد قضية الحجاب أضحى كل ما يمس المسلمين من قريب أو بعيد يحظى باهتمام إعلامي خاص جداً، وهذا المبدأ الانتقائي هو ما كان معمولاً به في أواخر القرن التاسع عشر عند بعض الصحافة المعادية لليهود، مؤكداً أنه لا ينبغي أن يفهم من كلامه هذا أنه يدعو إلى إنكار وجود المشاكل، بل التأكيد فقط على ضرورة معرفة ترتيبها وعدم النفخ من أجل تضخيمها. فمواضيع الساعة كما تقدمها وسائل الإعلام أبعد ما تكون عن عكس ما يجري في أرض الواقع، لأنها تخضع لقوانين “ما ينبغي رؤيته” أكثر من خضوعها لقوانين الواقع. فالبناء الإعلامي لـ “القضايا” يستهدف تحولينا إلى “حيوانات خائفة كادحة”، وإلى قطيع من الأغنام المطيعة، إنا هيمنة جديدة لا تطل على البشر من أعلى، بل بطريقة عمودية ومقدسة.
أما أنصار العلمانية في فرنسا فيرى أنهم نوعان، الأول: واعٍ إلى حد ما بثقافة علمانية تاريخية، والثاني: ارتباطه بالعلمانية كقناع لعداء الإسلام والمهاجرين. وهذا الثاني يفرض نفسه بطريقة غالبة. وقد تعرض بوبيرو من قبل هؤلاء للشتم والاتهام عدة مرات بسبب مواقفه.
يقول بوبيرو: إن الدستور ينعت الجمهورية بأربعة نعوت، فهي ديمقراطية، وعلمانية، وغير قابلة للتجزئة، واجتماعية. وأن العلمانية الجديدة (المزيفة) تزدهر اليوم بفضل الخلط بين مفهومي العلمانية والدنيوة، واليمين المتصلب يلعب على هذا الخلط، بوضعهما الكثلكة مكوناً للهوية الفرنسية، الشيء الذي يسمح لهم باستبعاد هذه الديانة مما يطالب به اليهود والمسلمون. ويمكن توضيح الاختلاف بين المفهومين باختصار بالرجوع إلى المعنيين المتباينين لعبارة “الدين مسألة خاصة”. فالعلمانية في معنى أول يقصد بها أن الدين ليس شأن الدولة، ولا مؤسسة عمومية أو سلطة يمكنها أن تقمع أو تعاقب، ولكل واحد أن يختار بنفسه ويرتبط بدين أو عقيدة كما يشاء، فالعلمانية هي الضامن للاختيار الإرادي والحر. أما التأكيد بالمقابل على أن الدين لا يمكن أن يعاش إلا داخل الدائرة الخاصة بمعنى “الدائرة الحميمة”، ورفض حق الفرد في إظهار معتقده الديني في الفضاء العام، وإرادة تحييد هذا الفضاء وإخلائه من كل تعبيرة دينية، فهو خلط بين العلمانية والدنيوة. وإن العلمانية تدخل في مجال السياسة، وحتى عندما يكون للثقافة مكان فيها فإن الأمر يتعلق بثقافة سياسية. أما الدنيوة فتدخل في المجال الاجتماعي الثقافي، وهي مرتبطة بدينامية اجتماعية.
فالعلمانية تسمح بحرية الاختيار، وتسمح بالتالي بإمكانية أن يكون للمرء علاقات متنوعة مع الدنيوة نتيجة اختياره، فهي لا تفرض شيئاً فيما يتعلق بالدين، طالما مورس بطريقة هادئة وفي كنف احترام حقوق الغير، فإن هي تدخلت أو فرضت شيئاً في هذا المجال، فإنها تكون بذلك قد خرقت مبادئها المتمثلة في الفصل بين الدولة والكنائس، ومبدأ حياد الدولة الذي يمنحها صفة الحكم النزيه، ومبدأي حرية الضمير، والمساواة بين المواطنين. ولئن كان لكل شخص حرية النضال من أجل دنيوة الدين، فإنه لا ينبغي وضع قوة الدولة في خدمة هذا المعركة.
وكمعالجة لإشكالية العلمانية الجديدة يرى أن ينبغي أولاً إعادة تركيز العلمانية في الدولة. والحرص ثانياً على أن يخضع تدبير مختلف الديانات والمعتقدات للقواعد نفسها، وثالثاً إعطاء العلمانية معناها الحقيقي، لا سلطة رسمية دينية أو عقائدية، بل ازدهار الحريات العلمانية لجميع المواطنين، وأخيراً التوجه نحو الموازنة بين غايات العلمانية: حرية الضمير، والمساواة في الحقوق، ووسائلها: الفصل بين الدولة والدين/الكنائس وحياد الدولة.
ويقدم مبادرة إجرائية لتحقيق تلك الغايات، وهي نقل مكتب الشعائر الدينية من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل، فهناك مساوئ في ربط الشؤون الدينية بوزارة الداخلية، لأنه ينم عن نظرة أمنية للدين، ومن المنطقي أن يتبع “مكتب العلمانية” وزارة العدل، فتمارس العلمانية بواسطة جهاز قضائي، وهذه هي الأرضية التي يتعين أن يتجلى فيها حياد الدولة التحكيمي في المقام الأول.
إن تجديد العلمانية الفرنسية بحسب بوبيرو سيكون مهماً لضفتي البحر الأبيض المتوسط، فإثر الثورات العربية في عام 2011م ظهر في العديد من الدول عهد جديد مليء بالتقلبات والوعود، ونحن نعرف أن من العوائق التي تقف أمام بناء دولة علمانية هو المعنى الذي يعطى في غالب الأحيان لمصطلح “علمانية” في جنوب المتوسط، إذ هو مرادف تقريباً لمصطلح “إلحاد الدولة”، وإذا كانت حقيقة العلمانية مختلفة بنيوياً عن هذا المعنى، فإن بعض القرارات التي تتخذها “العلمانية الجديدة” تسعى إلى جعل الفضاء العام خالياً من التعبيرات الدينية، وهو ما يجعل تلك القرارات سبباً في إحداث التباس في الأذهان، فتدابير المنع هنا يمكن أن تكون ذريعة لاتخاذ تدابير إلزامية هناك، لذا فإن وضع العلمانية على سكة الحريات العلمانية والمساواة بين جميع القناعات، الدينية وغير الدينية، سيكون أفضل وسيلة للمساهمة في تطوير تلك المجتمعات نحو العلمانية.
من المفاهيم التي توقف عندها بوبيرو مسألة أن العلمانية قضية الجميع، ومن الخطأ اعتبار النضال العلماني لا يهم سوى الملحدين واللأدريين، واعتبار ابتعاد المرء عن المعتقدات والشعائر الدينية يعني اقترابه من العلمانية أكثر هو مفهوم خاطئ. وينتقد التجربة السوفيتية ومواقف بعض الملاحدة في فرنسا بأنها تسعى إلى فرض نوع من إلحاد الدولة تحت غطاء العلمانية. ويرى أنه يمكن للمناضل العلماني أن يكون مؤمناً أو غير مؤمن، ويشير إلى أن أول دولة أقامت الفصل بين الدولة والكنيسة وأقرت حرية الضمير في القرن الثامن عشر، هي ولاية رود آيلاند التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وكان يقودها قس معمداني هو روجيه وليامز، وهو مبتكر عبارة “حائط الفصل” بين الدين/الكنيسة والدولة. فقد تكون هناك قدرة عن الشخص على ممارسة “الرياضة الفكرية” التي تسمح له بالفصل بين قناعاته الخاصة فيما يتعلق بالحق والخير من منظور روحي أو فلسفي، وبين التكريس لما يراه عادلاً في المجتمع.
وينقل عن المؤرخ كلود نيكولي قوله: “إن دولة لادينية ومناهضة للكهنوت، يمكن أن تكون بدورها دوغمائية وكليانية، وبالتالي غير علمانية.. لأنها تدعي توجيه العقول بغير طريق الحرية ذاتها”. “وينبغي على العلمانية أن تخترق العقول وأن تطرد الدوغمائيات من أعماق كل فرد عبر تربية مستمرة”. ويؤكد في آخر كتابه أن المزيد من الديمقراطية لا يعني بالضرورة مزيداً من العلمانية، وبالعكس، فإن المزيد من العلمانية ليس ضامناً لديمقراطية أكبر. بل إنه قد يحدث أن تتخذ العلمانية بعداً سلطوياً أو غاليكانياً.