جون بوبيرو ونقد العلمانية المُزيَّفة (1/2)
“العلمانية المزيَّفة” هو أحد مؤلفات عالم الاجتماع والمؤرخ الفرنسي جون بيبرو، وهو أحد أكبر المتخصصين في إشكالية العلمانية في الغرب، والذي جعل من هذه الإشكالية مشروعه العلمي، وأسس في عام 1991م “كرسي تاريخ وسوسيولوجيا العلمانية” في “المدرسة التطبيقية للدراسات العليا” بباريس فاعتبر مؤسساً لعلم اجتماع العلمانية. وهو أحد المساهمين في صياغة الإعلان العالمي للعلمانية، ويقارب نتاجه في موضوع العلمانية عشرين كتابا، وقد اخترت إلقاء الضوء على هذه الشخصية كونها أكثر الأصوات طرحاً لموضوع العلمانية من زاوية تقرب المسافة بين التيارات والثقافات والمذاهب المتنوعة، وكونها من أكثر الأصوات دفاعاً عن الأقليات المسلمة في الغرب.
يلخص بوبيرو مبادئ العلمانية في ثلاثة: الفصل بين الدولة والكنائس، وحرية الضمير، والمساواة في الحقوق. ويفصَّل أحياناً فيذكر غايات العلمانية وهي: حرية الضمير، والمساواة في الحقوق، ووسائلها: الفصل بين الدولة والدين/الكنائس وحياد الدولة. وقد دفعه لتأليف كتاب “العلمانية المزيفة” بروز علمانية جديدة سماها مزيفة أخذت تبرز وتتمدد في المجتمعات الأوروبية، يرفع لواءها التيار اليميني، وهذه العلمانية حسب بوبيرو، علمانية مزيفة، لأنها نقلت المبدأ العلماني إلى المجال العام، أي المجتمع، مما جعلها تؤول إلى نوع من الاستبداد تجاه الأفراد والجماعات، حيث تتدخل في ذواتهم واعتقاداتهم وشعائرهم، بينما العلمانية في جوهرها هي مجرد حياد للسلطة السياسية، ومن مستلزمات هذا الحياد ألا تمنع التعبيرات الثقافية والدينية من التمظهر في الحياة العامة. وأن احترام حرية الضمير يقود إلى الاحترام المتبادل بين المعتقدات، وليس إلى منع المظاهر الخارجية للشعائر.
تقوم أطروحة بوبيرو على تمييز جذري بين علمنة الدولة وعلمنة المجتمع، حيث يقبل العلمنة في المستوى الأول، أي بمدلولها كحياد للدولة أمام مسائل الاعتقاد الديني، ويرفض علمنة المجتمع عن طريق السلطة السياسية، لأن ذلك تدخل في اختيارات الأفراد وحرياتهم. ومن هذا الموقف فقد رفض بوبيرو كل أشكال التضييق التي تطال المسلمين في فرنسا، منطلقاً من الفلسفة العلمانية ذاتها، والتي هي في نظره محايدة أمام المسائل الدينية والاعتقادية، وحافظة للحريات الشخصية، وناهض التوجه اليميني لأنه في نظره ينتهي إلى تقديم تصور محرف للعلمنة.
يعتبر العلمانية أحد أهم المنظورات السياسية التي يمكن اتخاذها مرتكزاً لحفظ الاختلافات الثقافية والدينية، وشرعنة وجودها في المجال العام. ويرى أن العلمانية الجديدة قمعية مفصولة عن الحرية الدينية، فالعلمانية تتضمن حرية الضمير، وهو أوسع من الحرية الدينية، لأنه يشمل حقوق كل المواطنين، مؤمنين وملحدين ولا أدريين، وتضمن حرية ممارسة العبادات للجميع. ويرى أن العلمانية الجديدة مناهضة لحقوق الإنسان، فهي ناعمة إزاء الكاثوليكية وقاسية تجاه الإسلام.
يقول إن أول تعريف مقعد للعلمانية قدمه الفيلسوف فيردينان بويسون مساعد جول فيري، وقد وصف السيرورة التاريخية الطويلة للعلمنة، واعتبر أن عتبتها الحاسمة كانت إعلان حقوق الإنسان في عام 1879م الذي أبرز فكرة الدولة العلمانية في وضوحها التام، الحاملة لمواطنيها المساواة والحرية، والمؤلف لا يضفي طابعاً مثالياً على العلمانية التاريخية، ففي كتبه الأخرى كـ “العلمانية بين 1905 إلى 2005، بين الهوى والعقل” أو “علمانيات بلا حدود” يذكر أن بعض أتباعها خرقوا بعض الحقوق الإنسانية.
يرى أن الغرض من الكتاب هو مساعدة أولئك الذين اقتنعوا بأن العلمانية قد زيفت من قبل سائقي العلمانية المتهورين، الذين يريدون الاستمرار في سواقتهم الخطيرة دون محاسبة. وذلك عبر دراسة الفروق بين “العلمانية التاريخية” و”العلمانية الجديدة”.
ويتوقف بالتحليل عند عبارة سهلة التكليف تضع في قلب العلمانية فكرة كون الدين “مسألة شخصية” ويرى هذا التأكيد صحيح وخاطئ في الوقت نفسه، لأنه يكتسي معنيين مختلفين:
المعنى الأول: هو أن الدين ليس مسألة تخص الدولة، وبالتالي ينبغي أن يكون متمايزاً كل التمايز عن السلطة العمومية، والاختيار في مجال الدين والاعتقاد هو اختيار خاص، أي شخصي وإرادي حر، وبالتالي فلا ينبغي للدين أن يكون مؤسسة عمومية، وهذا هو مغزى قانون 1905م الذي يلغي كل طابع رسمي للدين.
والمعنى الثاني: اختزال الدين في واقع محصور في “المجال الحميمي” بحيث لا يمكن التعبير عنه في الفضاء العمومي، وهذا أمر مضاد لقانون 1905م، الذي ينمّي حرية الضمير والممارسة الحرة للعبادات، وإمكانية التعبير عن مظاهرها الخارجية في الطريق العام.
والعلمانية القمعية تعطي الأولوية للمعنى الثاني على حساب الأول، ومن هنا يتبين إلى أي حد سيكون من المهم طرح السؤال التالي: بأي نمط من العلمانية يتعلق الأمر؟ يمكن استخدام الكلمات نفسها، لكن الكلمات يمكن أن يتغير معناها، كما أن المعاني يمكنها تغيير الكلمات.
يؤكد على تعريف بويسون العلمانية بأنها: “الدولة المحايدة إزاء جميع الديانات، والمستقلة عن كل رجال الدين، والمتحررة من كل تصور لاهوتي”. ويرى إن التوجه الذي يستهدف إقامة “علمانية شاملة” كما عبر عنه أصحابه، كان حاضراً دوماً بدرجة أو أخرى، فيما يسميه “العلمانية التاريخية” لكنه بصفة عامة، لم ينتصر إلا بعد قضية “درايفوس” بين عامي 1901و1904م. وقد تمخضت عن قانون 1905م وما تلاه من نقاشات وتعديلات، اجتهادات قضائية تسير في اتجاه مغاير تماماً، غير أن البعض في الواقع، حتى داخل صفوف اليسار يتبنون بطريقة واضحة العلمانية الشاملة ويُقوِّلون قانون 1905م عكس ما يقوله.
في حديثه عند مبدأ الحرية كمبدأ من مبادئ العلمانية التاريخية، يرى أن الاعتداء على حرية الضمير وإن كانت حرية ضمير واحد تستحق أن يوضع لها قانون يمنع ذلك الاعتداء. وأن الحريات المكتسبة بعد قانون العلمانية، هي حرية التجمع وحرية الكتابة والقول، وحرية اختيار كبار المسؤولين، وحرية تغيير أقسام المقاطعات الكنيسة. وفي علاقة الكنيسة بالدولة صارت “الكنيسة الحرة داخل الدولة الحرة”، حسب تعبير كافور، لا الكنيسة الحرة والدولة الحرة. لا سيادة مشتركة بين الروحي والزمني كما كان في الكنيسة، وبهذا تصبح الديانات جزءاً من المجتمع المدني بما هو مكان للحرية. ويرى أن محاربة المظاهر الظلامية تتم بواسطة قوة العقل والحقيقة وحدها، لا من خلال مطالبة الدولة تحت شعار أن الدولة خادمة للفكر المتنور.
يتحدث عن العلمانية الجديدة بأنها تخلط بين “العلمانية” بما هي آلية تنظيم سياسي، وبين “الدنيوة” بما هي علاقة قائمة على الابتعاد عن المعايير الدينية التي هي من عمل الدينامية الاجتماعية. وأن فرض الدنيوة باسم السلطة يجر العلمانية إلى الانزلاق إلى نظام سلطوي وضعيف ديمقراطياً. وإن إرادة فرض الدنيوة بواسطة العلمانية أمر متناقض مع العلمانية التاريخية، ولا تقل سلبية عن إرادة فرض الديمقراطية بواسطة الحرب والغزو.
يرى أن العلمانية التاريخية بمبادئها في الحرية كانت إحدى مطالب الدول التي كانت تحت سلطة فرنسا، وذكر أنه في عام 1924م طالب الأمير خالد حفيد الأمير عبدالقادر بتطبيق قانون العلمانية الفرنسي لعام 1905م في الجزائر. وفي الثلاثينات أدرجت حركة الإصلاح الإسلامية التي تزعمها عبدالحميد بن باديس مطلب الفصل بين الدين الإسلامي والدولة ضمن برنامجها الإصلاحي، وفي أغسطس 1944م التزم الحاكم الذي عينه الرئيس الفرنسي شارل ديغول بتطبيقه. وفي مارس 1947م صوّت أعضاء مؤتمر علماء الجزائر لصالح اقتراح فكرة الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وطالب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي باسم المجلس بتطبيق القانون الخاص بالعلمانية. لكن فرنسا كانت تخرق مبادئ الجمهورية والعلمانية في مستعمراتها، وهذا يكشف عن تناقض خاص بالدولة الاستعمارية الفرنسية.