هاشم المدني.. مصور تسعيني ما يزال حنينه للعدسة شاباً
يقلّب هاشم المدني صور الناس ومدينة صيدا (جنوب) بين يديه المتعبتين وكأنه يقلب أيام عمره وعمر المدينة، وهو مصرّ، رغم انه جاوز التسعين من العمر، على تمضية ساعات في استديو التصوير الخاص به في المدينة، كعادته اليومية المستمرة منذ خمسينات القرن الماضي. صيدا/ الاناضول
يقلّب هاشم المدني صور الناس ومدينة صيدا (جنوب) بين يديه المتعبتين وكأنه يقلب أيام عمره وعمر المدينة، وهو مصرّ، رغم انه جاوز التسعين من العمر، على تمضية ساعات في استديو التصوير الخاص به في المدينة، كعادته اليومية المستمرة منذ خمسينات القرن الماضي.
يروي مصور صيدا المخضرم، وهو الذي ولد لأم لبنانية وولد وعاش في لبنان، روايات المدينة الجنوبية التي أسرت قلب والده محمد طاهر المدني وأحبه أهلها، حتى زوجوه والدة هاشم فقضى بقية عمره في المدينة، بعدما كان آتيا اليها من الشرق الاقصى حيث اوفدته السلطنة العثمانية للدعوة الى الاسلام، وذلك عام 1918 اي بعد تفكك السلطنة، في طريق عودته الى مسقط رأسه اي المدينة المنورة. لم يرث هاشم عن والده دراسة العلوم الدينية في الأزهر بمصر، بل تبع اشباع هوايته في تعلم التصوير الفوتوغرافي في فلسطين حيث قضى نحو سنة في مدينة حيفا يتتلمذ على يد أحد المصورين فيها فتعلم التصوير وحرفة تظهير الصور السلبية (النيجاتيف) وطباعتها.
لم يعد من حيفا، الا مع نكبة 1948، الا وقد اتقن المهنة لا بل وتوصل الى خليط خاص من ادوية تظهير الصور الفوتوغرافية جعلت صوره تبدو واضحة وبارزة بمعايير عالية فافتتح الاستديو الخاص به في صيدا حيث التقته “الاناضول”، وصار مقصدا للكثيرين من أهل صيدا وبيروت والدول العربية المجاورة. وعلى الرغم من انه ليس مصورا صحافيا او مصورا للمشاهير، يحتفظ هاشم في الاستديو الخاص به بصور للعديد من المشاهير كرجالات الاستقلال اللبناني مثل ابن صيدا رئيس حكومة الاستقلال رياض الصلح والزعيم الدرزي مجيد ارسلان وكذلك شخصيات سياسية صيداوية مثل النائب السابق الراحل معروف سعد وغيرهم، بالإضافة الى فنانين راحلين مثل الفنانة صباح ووديع الصافي ومحمد عبد الوهاب وآخرين، حيث التقط صورا لهم في مناسبات عامة غالبا.
يشير هاشم كيف انه كان يلبي طلبات واذواق الناس، ففي عصر افلام “الويسترن” الاميركية، اشترى ملابس رجل “الكاوبوي” (راعي البقر) الاميركي الذي كان يظهر في السينما، حيث درجت العادة ان يطلب الناس التقاط صور بهذا الزي، او ذاك. سعى ليرضي كل الاذواق، لا بل روى كيف انه ايام الاعياد كان يشهد اقبالا لأن الناس كانوا يحبون التقاط الصور بلباس العيد، ما يضطره الى العمل ساعات تصل الى 12 ساعة متواصلة في التظهير وطباعة الصور حتى يحصل عليها الزبائن يوم العيد.
وروى هاشم، لـ “الاناضول، كيف انه في عصر صور الابيض والاسود أتقن حرفة تلوين الصورة وهو امر لم يكن ممكنا إلا يدوياً وعبر ريشة الرسم وليس طباعة، وهو أجاد ذلك الى درجة أن أحد أبناء صيدا ممن كانوا يعملون في البلاط السعودي، أحضر له صورا كان التقطها للملك السعودي مؤسس المملكة عبد العزيز آل سعود، وطلب منه تلوينها حتى يقدمها هدية للملك، ففعل هاشم ذلك مقابل مبلغ زهيد.
لم يتوقف هاشم عن ممارسة مهنة التصوير الا عام 2014 بعدما تغلب العمر على قوة الجسد فصار هزيلا، فلم يشأ ان ينتج اي صور لا تليق بسمعته وتاريخه الطويل من الابداع في عالم التصوير، الى حد مشاركة صوره في معارض عديدة في اسبانيا وبريطانيا وفرنسا، حتى انه حصل عام 2005 على شهادة تقدير من الجمعية الملكية البريطانية للمصورين الفوتوغرافيين. على الرغم من ذلك، ما زال هاشم المدني يقود سيارته كل يوم الى الاستديو الخاص به حيث يقضي ساعات قليلة في المكان الذي ما زال كما هو، مزيّن بالصور والكاميرات العديدة التي استخدمها على مر سنوات عمله في المهنة، بالإضافة الى احتفاظه بأرشيف الصور التي التقطها منذ افتتح الاستديو عام 1953.
يشرح هاشم اصراره على الحضور رغم توقفه عن ممارسة المهنة، بأن هذا هو المكان الذي يحتضن أجمل سنوات عمره وتعبه المهني وبالتالي يذكره بكفاحه حتى فاقت شهرته مدينة صيدا الى لبنان ودول الجوار. وعلى الرغم من اقترابه من التسعين (مواليد 1928)، يحتفظ هاشم بذاكرة نقية، تجعله يتوقف عند كل صورة في الاستديو، ليخبرك ظروف التقاطها وقصص اصحابها ومهنهم، وفي احيان كثيرة يذكر اسماء الاشخاص الذين صورهم، حتى يبدو الاستديو الخاص به وكأنه ارشيف لحياة الناس العاديين في المدينة ومهنهم وطريقة لبسهم، بل وعاداتهم وبعض قصص حبهم.
لم يورث هاشم المهنة لولديه اللذين اتجها صوب الهندسة، ويبدو راضيا بما انجزه مهنيا وعائليا، لكن المدهش انه كان يتوقع عصر الكاميرات الرقمية ولم يفاجأه هذا التطور الذي شهده عالم التصوير.
يقول هاشم “ولداي عاشا في الولايات المتحدة وكانا يخبراني ان جيلا جديدا من الكاميرات بدأ استعماله في اميركا وبالتالي توقعت ان يصل الى بلادنا”، لكن عن الفرق بين الزمنين، يقول “في الماضي كانت الصورة تعبر عن جهد المصور وحرفيته، اليوم التعب هو للآلات والكاميرات وليس للانسان”.