شاب في العشرينات من عمره عرف في القرية بـ(عبده الأكمح)، جاء هذا الاسم من إعاقته، فهو معاق برجله اليسرى تماماً منذ ولادته، ولا يمشي إلا على العصا.
الاسطورة (عبده الأكمح)
شاب في العشرينات من عمره عرف في القرية بـ(عبده الأكمح)، جاء هذا الاسم من إعاقته، فهو معاق برجله اليسرى تماماً منذ ولادته، ولا يمشي إلا على العصا.
كان (عبده الأكمح) المعاق، معافى الروح مستقيم الإرادة، وجّه إخوانه أحمد ومحمد للتدريب في معسكر التربة بقيادة عدنان الحمادي، للاستعداد للدفاع عن العرض والأرض كما كان يردد.
وعند ما وصل الحوثة إلى مركز مديرية المسراخ، وصولاً إلى أسفل (نجد قسيم) لم ينم (عبده الأكمح)، ولم يهدأ، وبقي يحرض على المقاومة كقائد جسور مهموم بتحرير أرضه وأهله.
شجاعة وإقدام (الأكمح) مع إعاقته الشديدة كانت دافعاً ومثالاً للشباب، وكان المتحوثون يرون في (الأكمح ) خطراً حقيقياً في حشد الشباب بما يمثله من قدوة محفزة ونموذج ذابح للخوف والتردد.
أحدهم مغتاظا يتحدث لوالد الأكمح:
– أنت مجنون تخلي ابنك يرمي بنفسه للتهلكة؟ راجع ابنك. ما تستحيش؟
— أنا أفخر بابني، واللي يجب أن يستحي هو من يقف متفرجاً أمام المعتدي.. تدري أنا أبحث عن سلاح لو حصلتوا سلاح شاكون في المقدمة بشيبتي!!
سعيد الذي عرف عنه الخوف، وجد في مقدمة الجبهة، وعندما سأله أحدهم: مالك يا (سعيد)؟ إيش اللي جرى وانت تفتجع من (عومتك)؟
أجاب سعيد: يا رجل عيب الخوف.. من يرى (عبده الأكمح) يستحي أن يخاف أو يفتجع.
حاول الكثير إقناع (الأكمح) بعدم الانخراط في المقاومة، فحالته لا تسمح للسير الطبيعي، ما بالك بالقتال.
— أنت معذور يا عبده.. يقول الحاج أحمد ويضيف: يكفيك أنك دفعت بإخوانك، وعليك أن تعرف أنه (ليس على الأعرج حرج)
هذا عن الأعرج، أنت أكثر من أعرج؛ أنت معاق.
لكن (عبده) لم تهزه كل التحذيرات، ولم يلتفت للتبريرات، ومع الوقت لم يعد أحد يفكر بالحديث عن إعاقة (عبده الأكمح) الذي أصبح القائد (عبد الأكمح)، وروحاً دافعة ونموذجاً صارخا للبطولة، وهو يحول إعاقته إلى مصدر قوة وتأثير معنوي كبير!
قال الأستاذ محمد: لقد عجزنا عن ثني (عبده الأكمح) لأنه شاب لا يعترف بالإعاقة، ويؤمن أن الحياة فرصة عطاء يقتنصها الأبطال لتقديم أغلى ما يملكون في الأوقات الحرجة التي تناديهم فيها أوطانهم، و(عبده الأكمح) لم يضيع هذه الفرصة، لأنه أدرك أن أمامه فرصة ثمينة لممارسة دوره كبطل في المقدمة بعيداً عن دائرة الهامش وزاوية الخوف.
اهتزت الأرض من تحت أقدام جماعة (الحوثي وصالح)، التي قدمت من خارج المحافظة.
فقد أصبح منطق الأرض والشجر والإنسان (كلنا مقاومة) نساء ورجال وأطفال، وعندما يتردد أحدهم أو يخاف ينظر إلى صولات الأكمح (المعاق) فيربط على قلبه وينطلق.
اشتعلت الأرض الممتدة من عزلة الكلائبة إلى (بني علي الحاج)، ومن (طالوق) إلى (الوجد)، وأصبح قاع (جبأ) الممتد والذي يربط (المسراخ) بـ(المعافر) عبر عزلة الكلائبة فوهة بركان، تحت أقدام الجماعة الغازية بينما استمر جبل الراهش (غرباً)، وضحيح (شرقاً) يزمجران غضباً وناراً وإرادة لا تقهر معبرة عن قوة الإنسان وصلابة روحه.
في البداية قام قائد المجموعة بوضع (الأكمح) في الصفوف الخلفية لحماية المهاجمين وهو مكانه الطبيعي، ورغم أنه قام بدور هام فقد ضاق من الصفوف الخلفية؛ فهو من صنف الرجال الذين يعشقون مقدمة التضحيات ومواجهة الأخطار ومصارعة الموت (رأساً برأس)!!
وتحت إصراره، اقتنع القائد أن يكون (الأكمح) في المقدمة وضمن مجموعة الهجوم والمهمات الخاصة.. لم يعترض أحد من أفراد المجموعة بل اعتبروا وجوده رافداً للمجموعة ومصدر قوة.
منظر القائد (عبده الأكمح) وهو يحمل (الآلي) ويسير على (العصى) مسرعاً بصورة عجيبة، هو سير أشبه بالحبو، لكنه أيضاً حبو أقرب إلى الطيران!!
يتحرك مع زملائه دعبوش، هيثم، عبدالواسع، حمزة، حمدي، وآخرون بين البيوت والمواقع بخفة عجيبة، ويقوم بعمليات كر وفر مع أفراد (الشريف) و(محمد الفاروق)، ليحققوا انتصارات متتالية وتسللات ناجحة وهجمات موجعة..
لم يشكوا أحد من ثقل (الأكمح) أو تباطؤه، والبعض يسير بجانبه كمن يسير بجانب قائد مكتمل الجسم والتدريب والاحتراف!!
هناك بطولات أسطورية يقدمها زملاء عبده الأكمح، لكنه كان بإعاقته أشبه بمعجزة أوجدتها روح المقاومة عند الناس، ويعلق القائد خالد عن حالة (عبده الأكمح) بقوله: إن الشعوب تحيا بإرادتها ولا توقفها الإعاقات ولا الحواجز. الأكمح يمثل عندي كتيبة بحالها.
كان يختار وزملاؤه وقت ومكان الهجوم ونقاط ضعف العدو لخبرتهم بالمكان، وكانوا يكبدون الجماعة التي اعتقدت يوماً بأنها مرعبة لا تهزم، وبعد كل هجوم كان الشباب مع الأكمح يعودون ليتندروا بذعر جماعة الحوثي وفرارهم.
كان يرى أن الحرب هي حركة لا تتوقف، وبهذه الحركة سيطروا على العديد من المواقع والمنازل التي كانت بيد الحوثيين.
في أحد المنازل التي حرروها من الحوثيين وجدوا دبتين بترول وقارورة (خمر)، علق أحد الشباب ساخراً وهو يكسر القارورة بقوله: مسيرة قرآنية تتغذى على الخمر والدم!!
كان الحوثيون قد أعدوا هجوماً لاستعادة المنازل والمواقع التي حررها (الأكمح) ورفاقه، واستدعوا تعزيزات جديدة خاصة وهذه المواقع تمثل تهديداً مباشراً على الحوثيين وتبعد عن مركز المديرية مئات الأمتار.
كان الهجوم الحوثي كبيراً والكثافة النارية عالية، قاتل (الأكمح) ورفاقه كالعادة وتحت كثافة النيران والهجوم الكبير اضطر زملاء (الأكمح) للانسحاب إلى الخلف، بينما بقي هو يضرب بالنار في مكانه صامداً كجبل (الراهش)، شامخاً كقمة (العروس)!
أصيب بثلاث طلقات في ضلعه الأيمن، ثم طلقتين في يده اليمنى وطلقة رشاش معدل في رجله اليمنى (السليمة)، التفت إلى التلفون ليتصل بزملائه ليسعفوه بكل هدوء وكأنه يؤدي عملاً روتيناً.
الرصاصة السابعة استقرت في يده اليسرى أثناء اتصاله!
أصبح مثخناً بالجراح، ورجله اليمنى التي يتحرك بها لم تعد قادرة على الحركة.
اقترب منه ثلاثة مسلحين حوثيين، كان ينظر إليهم كصقر وبهدوء حاول أن يسحب سلاحه ليضرب الرصاص عليهم، لكنه لم يعد قادراً على الحركة ولا تحريك أصابعه.
اقترب منه مسلحو الحوثي، وكان ينتظر لحظة الاستشهاد لكنهم مروا عليه سريعاً ونجا منهم بأعجوبة!
الحاج اسماعيل يقول: إن (عبده الأكمح) أرعبهم جريحاً كما أرعبهم مقاتلاً، فقد كان أسطورة فداء واسمه مثّل رعباً حقيقياً لمقاتلي الحوثي، فقد كانوا ينظرون إليه كحالة وراءها سر أسطوري وحالة سحرية؛ خاصة والجماعة غارقون في الأساطير والأوهام.
تحرك (الأكمح) إلى الخلف، ولأول مرة يحس ويستفيد من رجله اليسرى المعاقة والذابلة تماماً منذ مولده!
حبى حبواً بجراحه حتى لاحظه زميله (فتح) وهو شاب مقاوم من قرية (الجرجور) المجاورة. أخذ (فتح) ينادي أصحابه لإسعاف عبده، حمله على ظهره وسرعان ما طرحه لصد هجوم، وبعد خمس دقائق يعود لحمل (الاكمح) وإسعافه وهو مثخن بجراحه من سبع رصاصات استقرت في جسده.
في سوق (النشمه) تم إسعافه إسعافاً أولياً، وفي مركز (التربة) أدخلوه المستشفى لكن الكهرباء كانت طافية.. سمع أحدهم يقول لآخر: شغلوا الكهرباء عندنا جريح ليرد هذا بالرفض قائلاً: كيف نلصي الكهرباء على جريح واحد؟
هذا الموقف أزعج (الأكمح) فتوجه للممرضين يشتمهم على الطريقة التعزية (..) ويطلب من مرافقيه إخراجه من المستشفى حتى لو جاءت الكهرباء.
كان هذا احتجاج مرسله لمستشفى التربة على النظرة القاصرة للإنسان، فالجريح الواحد هو أمة في نظر ملائكة الرحمة، والواحد يساوي الألف، وهذا هو المفترض.
تحركت سيارة الإسعاف مباشرة نحو (هيجة العبد) إلى عدن، مرت ساعات طويلة ووعرة، وعندما وصل مستشفى عدن كان منهكاً لكنه ما زال في كامل الوعي.
قال له الدكتور وهو يسعفه: إيش فيك؟
قال: كنت بالجبهة.
الدكتور غاضباً: كنت بالجبهة إيش وديك الجبهة ما فيش شباب؟ تسوي نفسك قائد كتيبة وأنت معاق؟
رد عليه بلسان ثقيل: أنت بس شوف شغلك لو سمحت..
مكث (الأكمح ) خمسة أيام في غرفة الإنعاش، خرج منها ثم عاد فيها ليومين، ليخرج بعدها بصورة جيدة يتحدث عن الجبهة والمعركة والانتصار، ويسأل عن زملائه، ويتأكد من تحرير مركز المديرية.
قال له الدكتور مستغرباً ومعجباً: أنا عندما شفتك رحمتك، وزعلت عليك، وقلت ليش حمّلوك (آلي)؛ أما الآن أنا أطلب منهم بأن يحملوك مدفع.