كتابات خاصة

(شخصية اليويو)

عائشة الصلاحي

في قواعد ألف باء اسعافات أولية تتعلم أنه في حالة اسعافك لمصاب به 3 أنواع من الجروح: جرح ينزف.. كسر.. وجلد محروق، فعليك حتماً أن تبدأ بالجرح النازف، فتضمده لتوقف النزيف قدر المستطاع.

في قواعد ألف باء اسعافات أولية تتعلم أنه في حالة اسعافك لمصاب به 3 أنواع من الجروح: جرح ينزف.. كسر.. وجلد محروق، فعليك حتماً أن تبدأ بالجرح النازف، فتضمده لتوقف النزيف قدر المستطاع.
مهما بدت لك الجروح الاخرى أسوأ، عليك أن توقف النزيف أوﻻً، هكذا يكررون على مسامعك كلما رمقتهم بنظرة استغراب، ﻷن فقدان المصاب للدم يعني موته المحقق أما بقية الجروح مهما ساءت فلن تتلف حياته..
تلك حكمة جيدة  في الإسعافات وفي غيرها، و علينا تذكرها في حياتنا اليومية حتى نرتب أولوياتنا بالشكل الصحيح.
بمعنى أدق أننا لو حاولنا تطبيقها على حياة البشر سنجد أن لا شيء يستنزف الإنسان مثل علاقة مزعجة تؤلمه وتؤذيه في تفاصيل يومياته.
الكثيرون يعتقدون أن الجانب المادي أو الحالة الجسدية هي الأهم وما يصيبها يؤثر بشدة في الإنسان، لكن المتأمل بعمق يدرك أن العلاقات البشرية هي جوهر الحياة للإنسان وأن هي- وهي فقط – من تصنع مستوى حياته…
علاقة سيئة واحدة تشتت تفكير الفرد و تعمي بصيرته وتنهك مشاعره وتصيبه بالمرض، في المقابل علاقة سعيدة واحدة تمنح الإنسان القوة والمقاومة والابداع…
من لديه شك عليه أن يفكر بيومه وكيف كان نومه، مزاجه، شهيته، دافعيته للانتاج، وتركيزه في التعلم حين كان ينعم بعﻻقة حلوة دافئة، وكيف كان كل ذلك حين عاش خصام وشحناء وبغض مع أحدهم!
لابد أن الفرق شاسع جداً، وهذا يجعلنا نتساءل عن حجم الأمية العاطفية والاجتماعية التي تتحكم في علاقاتنا…
هل لدينا حقيقة الجرأة لنضع تصنيفاً واضحاً وصادقاً لعلاقاتنا وأهميتها في حياتنا بكل إنصاف وتجرد، أم أننا نظل خبط عشواء فيها؟
علم العلاقات هو الفقه المنسي والمفقود، وصرنا نخبط في بعضنا مثل عميان في درب ضيق مظلم، وتظل جراحنا تنزف كل يوم حتى نتحول إلى أشجار ذابلة مازالت واقفة بالكاد، لكنها قد يبست من الداخل و صارت تحتضر …
أولسنا كذلك؟؟!!!
دعونا اليوم نتحدث عن واحدة من أسوأ أنواع العلاقات التي قد نعيشها والتي تصنع ملفاً عالقاً حقيقياً وجرحاً ينزف في أعماقنا دون توقف، تلك العلاقة تربطنا إحدى أنواع الشخصيات، ودعونا نسميها شخصية (اليويو).
اليويو لعبه مثل البكرة أو الكرة تربط إلى اصبع اليد بخيط طويل، وحين ترميها بعيداً تنطلق وتظل تدور في الهواء حتى تجذبها، فيلتف الخيط حولها لتعود إلى يدك…
اليويو في انطلاقتها تظن نفسها حرة متحركة ومتدفقة، لكن الحقيقة أنها ليست كذلك، وأن جذبة واحدة من اللاعب تعيدها إلى يده بكل إحكام وسيطرة مطلقة عليها..
الخيط يوهم البكرة بالحرية وطوله يوهمها بالاستقلال، لكنها في الحقيقة أسيرة ومحدودة الأداء بواسطته.. فكل ما تؤديه هو مجرد التسلية للاعب!
في حياتنا يوجد الكثير ممن يجيدون لعب اليويو على من حولهم من البشر …إنهم بارعون في ربط الناس إليهم بخيط رفيع من الود والكلام المعسول والابتزاز العاطفي، لكنهم في الأعماق لا يقصدون سوى السيطرة عليهم والحيازة على اهتمامهم.
إنهم لا يملكون أدنى رغبة للالتزام الحقيقي تجاه من يربطونهم بشخصهم المبهر، لذا ففي لمحة عين يتخلون عنهم بشكل مباشر أو غير مباشر.. يهملونهم.. يدفعونهم بعيداً.. يقسون عليهم، ولن يؤثر فيهم توسلات الطرف الآخر لمعرفة السبب أو حتى محاولاته المخلصة للقرب منهم.
الطرف الآخر يعيش أسوأ أيام حياته بسبب هذا الهجر، وبعد معاناة ومشقة يتجاوز وجعه ويحاول متابعة حياته بالمتبقي من حطام نفسه، حتى إذا تخيل أنه قد ابتعد وتماثل للشفاء مما أصابه، هنا بالتحديد يجذب شخصية (اليويو) الخيط في براعة وقوة ليعيده إلى يده.
فتجده يعتذر، يرسل قصص الشوق والاحتياج، ويهدد بايذاء نفسه لو استمر الفراق.. يتباكى على أيام الوصال، يبرر.. يعلل.. يوعد.. يفرش الأرض وروداً ورياحين.
الطرف الآخر يجد نفسه مجدداً في معركة قوية داخله فهل عليه أن يستمر بالابتعاد؟
و أين الصفح اذن؟
أين روح التضحية؟
كيف يتخلى عمن يحتاجه؟
أين الوفاء؟؟
أين صلة الرحم و القربى؟
وكيف نتجاهل الطاعة والولاء؟
وفي لحظة بشرية من ضعف وغباء عاطفي، يعود الطرف الآخر بكل حماسة وشوق، ويظن أن الامور ستكون على مايرام، إنها بالفعل على مايرام، فكل تصرفات وأفعال شخصية (اليويو) تصبح ممتازة بل و مثالية معه…
المسكين لا يكاد يتنفس الصعداء من الصدمة الاولى حتى يعود الشخصية (اليويو) لممارسة متعته في قذفه بعيداً عنه في قسوة وعنت مبهم وغامض..
تخيلوا أن هناك علاقات بشرية من هذا النوع امتدت لعشرات السنين تحت غطاء الزواج أو الشراكة أو الصداقة أو الاسرة أو حتى القيادة!
علاقات استنزفت نفوس ضحاياها كراً و فراً.. وصلاً وقطعاً.. شقاقا وصلحاً.
وحين يشكون لك عن تدهور حياتهم وتنصحهم بالتخلص من هذه العلاقة، يحدثونك عن مثاليات حمقاء ولحظات عاطفة مشتعلة كانت بينهما دون أن يقرروا أن كل ذلك لا يساوي كل الضرر والشتات الذي أصابهم.
ومهماحاولت اقناعهم أن يضعوا حداً لكل هذه الدائرة المفرغة، يتفلسفون حول القدر والنصيب و(مت مظلوماً ولا تمت ظالماً)!!
عندها توقن أن الخيط مازال محكم إلى اصبع الشخصية (اليويو) وأنهم مازالوا أسرى له للأسف.
المريع أن تجد شعوباً بكاملها تعيش في قبضة شخصية (يويو) واحدة متسلطة ونفعية!
شعوب لا تتعلم درساً من كل تلك المفاسد التي سببها لهم هذا القائد أو ذلك النجم الاجتماعي..
قد تعتقدون أن هذه الشخصية قوية، لكنها ليست كذلك، إنها فقط بارعة في اصطياد اناس لديهم قابلية للاستحواذ والتملك..
ليس بالضرورة أن يكون الضحايا ضعفاء طوال حياتهم، يمكن أن تكون لديهم القابلية في فترات محددة في حياتهم أو تجاه أشخاص محددين.
الشخصية غير القابلة للابتزاز العاطفي والضحك على الذقون ستجدها ذات حزم وحسم ومرجعيتها قول الرسول لأبي العزة الذي غدر بعهده له وطلب فرصة اخرى فرفض، وقال له عليه الصلاة والسلام: (لتمسح عارضيك بمكة، وتقول خدعت محمد مرتين.. لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).
لا شك أنكم تتساءلون عن الحل الحقيقي لهذه المصيدة و الشرح لهذا يطول، لكن جوهر الحل أن تدرك الضحية حقيقة أنها مجرد (يويو) لا أكثر للطرف المتحكم، وهذا الادراك هو أول طريق الحل الذي سيقودهم لطلب المساعدة وتطبيق ما يلزم للافلات من هذا المتاهة.
سؤال آخر يتبادر للذهن، ولماذا شخصيات (اليويو) يفعلون ذلك؟؟
على مايبدو أن المتعة في الجذب والإفلات لها ادمانها السيء عندهم و يشعرهم بالإثارة وإثبات الذات، عموماً هذا النوع ليس على ما يرام كشخصيات نرجو لها حياة مستقرة ويعانون خللاً عميقاً في منظومتهم الأخلاقية والروحانية.
نتمنى أن لا تكونوا طرفاً في علاقة من هذا النوع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى