من أصعب الأمور توقع إمكان حدوث تحولات في الشأن اليمني خلال العام الجديد تختلف عن أحداث العام الماضي. فالمشهد السياسي اليمني أجمع على تعقيداته أغلب الدبلوماسيين الأجانب، يشاركهم في ذلك الرأي جميع المبعوثين الأمميين من جمال بن عمر إلى المبعوث الجديد السويدي السيد هانس غروندبرغ. هل الجغرافيا والبيئة اليمنية، والموروث التاريخي المعاصر، يمكن أن تفسر أسباب تعقيدات الأزمة اليمنية؟ حينها يطرح السؤال: لماذا في الستينات مع سقوط نظام الإمامة وإعلان الجمهورية، وفي التسعينات مع تداعيات حرب الرئيس السابق علي عبد الله صالح، لم تستمر الأزمة في كلتيهما أكثر من بضعة أشهر، في حين أن الأزمة الحالية ستكون في مطلع الأشهر القليلة المقبلة قد دخلت عامها الثامن؟
هل أحد عناصر الاختلاف بين جميع تلك الحروب والأزمات التي حدثت سابقاً في اليمن يختلف عن الأزمة الحالية؛ لأن أطرافها ليست كسابقاتها، انتقلت من أزمة محلية إلى إقليمية، وإلى أزمة دولية تتداخل فيها المصالح الإقليمية والدولية المختلفة، وأصبحت على طاولة الشطرنج قطعة محورية يسعى عدد من الأطراف للمساومة عليها مقابل حل ملفات أخرى، أو لنكون أكثر دقة؛ يجري تعليق حلها بانفراج مفاوضات الملف النووي الإيراني في فيينا من دون وجود ضمانات حقيقية بأنه إذا جرى حل الأزمة فسيفضي بالضرورة إلى انفراج في الأزمة اليمنية؟
في جميع الأزمات والحروب التي عاشها اليمن في الماضي لم يكن الطرف اليمني ميليشيات انقلبت على السلطة كالجماعة الحوثية «أنصار الله»؛ وإنما كانت له صفة الدولة المعترف بها دولياً عضواً في الأمم المتحدة.
مجموعة أحداث جرت في نهاية عام 2021 قد تشكل محددات يتبلور من خلالها ما سيجري في العام الجديد 2022، يتمحور أحدها؛ وهو الأهم، في طموحات السياسة الإيرانية إلى التغلغل في المنطقة العربية على مستوى الجزيرة العربية والخليج العربي، ويمثل وجودها في اليمن أحد محاور سياستها لتحقيق طموحاتها إلى أن تشكل محور نفوذ رئيسياً لها في المنطقة، وما لذلك من تداعيات ومساومات في ملفات إقليمية ودولية أخرى.
المواقف الأميركية المتتالية نحو نظام شاه إيران واستخدامه للعب دور الشرطي في منطقة الخليج تخلت في نهايتها عنه حين شعرت أنه بدأ يعمل لصالح طموحاته الفارسية وليس لخدمة المصالح الغربية، ولذلك ساهمت بإسقاطه وبقدوم حكم ملالي إيران الذي استفاد من تعامل الغرب مع الشاه. وأحد الدروس المستخلصة تمثل في إيجاد وكلاء محليين بالمنطقة مثل «حزب الله»، و«الحشد الشعبي»، و«أنصار الله» الحوثيين، يغذيهم بالمال والسلاح وتربطه بهم رابطة مقدسة؛ المذهب الواحد.
وبغرض تشكيل قوة إقليمية مؤثرة في المنطقة كان الملف النووي؛ سواء أكان لأغراض سلمية أم سلاح ردع، فقد أعطاها ذلك ورقة تفاوضية ليس فقط إزاء الأطراف الإقليمية؛ بل أيضاً في علاقاتها مع القوى الكبرى الدولية، وبشكل رئيسي مع الولايات المتحدة.
فالاتفاق النووي الموقع بينها وبين دول «5+1» في عهد إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الغريب فيه أنه أغفل إدراج صناعة الصواريخ وموضوع التدخلات في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
ومما لا شك فيه أن الأوراق الإقليمية مهمة دولياً لإيران، وهذا يفسر استمرارية دعمها الحركة الحوثية التي تستخدمها ظاهرياً لدعمهم؛ بينما هي في الأساس تخدم أهدافها الجيواستراتيجية والجيوسياسية.
فتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وسعي إيران، عبر الحوثيين، إلى محاولة التحكم في جنوب البحر الأحمر، خصوصاً في باب المندب لتشكيل كماشة مع مضيق هرمز، ورقة مهمة يمكن استخدامها ليس فقط تجاه الدول الغربية؛ بل أيضاً تجاه المجتمع الدولي بأسره.
والورقة الجيوسياسية هدفها استنزاف قدرات دول الخليج العربي، وبشكل رئيسي المملكة العربية السعودية؛ القوة الإقليمية ذات الوزن المؤثر سياسياً واقتصادياً (العضو العربي الوحيد في مجموعة «الدول العشرين») أكثر من بقية دول المنطقة، وذلك استعداداً لمرحلة تخلي الولايات المتحدة عن اهتمامها بالمنطقة وما قد يتركه ذلك من فراغ استراتيجي.
وفي سياق متصل، رصد تقرير حديث أصدره «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الهجمات والعمليات التي شنها الحوثيون على السعودية؛ وفق ما نشرته مؤخراً هذه الصحيفة، والتي بلغت خلال 5 أعوام من 2016 – 2021 أكثر من 4100 هجوم ازدادت وتيرتها خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021، وبلغ متوسط هجمات الحوثيين على السعودية 78 هجوماً شهرياً.
وأضافت الصحيفة بتعليق سيث جونز، المحلل البارز لـ«برنامج الأمن الدولي» في ذلك المركز، قوله إن «هجمات الحوثيين نفذت من خلال صواريخ باليستية وصواريخ كروز، وبشكل أساسي بواسطة طائرات من دون طيار (درونز) التي غالباً ما تستخدم ضد البنية التحتية المدنية السعودية باستهداف المطارات والمنشآت الأخرى».
من جانبه، قام التحالف بقيادة السعودية بشن ضربات نوعية استهدفت مواقع وورشات تخزين الباليستيات والمسيّرات وتجميعها وتفخيخها، كما استهدف منشآت سرية لعناصر «الحرس الثوري» الإيراني وأخرى لـ«حزب الله» اللبناني، وأعلن التحالف وكشف بمقاطع فيديو عن تحويل الميليشيات مطار صنعاء، وفق بيانات التحالف، إلى ثكنة عسكرية واستخدام مرافق تابعة للمطار في تهديد المدنيين باليمن وفي السعودية، وهو ما دعا التحالف إلى الإعلان عن ذلك أولاً، ثم التحذير من استغلال مرافق المطار؛ لاستخدامه من قبل الوكالات الإغاثية الأممية والدولية، ولعدم استجابة الحوثيين لتلك التحذيرات، نزعت الحصانة عن المطار وشن التحالف ضرباته على مرافق المطار.
إذن بدأ التحالف يستخدم استراتيجية جديدة بالإعلان المسبق عن الأهداف التي ينوي ضربها من جهة؛ والعمل على تشتيت الجهد الحربي الحوثي واستدراجه نحو مناطق أخرى تساهم في شغل الميليشيات عن الاستمرار في الضغط على جبهة مأرب التي باتت خطاً أحمر ويجب عدم السماح بسقوطها بأيدي الميليشيات.
ولا شك في أن مثل هذه العمليات لاقت ترحيباً أميركياً للضغط على الحوثيين بعد ما بدا لهم من عدم استعدادهم للجلوس إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى حل للنزاع والتسوية السياسية. فقد اتهمت الولايات المتحدة جماعة الحوثي بالوقوف «عقبة أمام حل الصراع» في اليمن، وبأنهم يستمرون في هجماتهم الإرهابية ضد اليمنيين والسعودية، عادّةً أنهم بهذه الأفعال «وحدوا العالم ضدهم» وأنهم غير مهتمين بالدبلوماسية ولا يريدون السلام.
بمناسبة الاحتفال العالمي بحقوق الإنسان، أكد تيم ليندركينغ، المبعوث الأميركي الخاص إلى اليمن، بتصريح أراه مهماً للغاية لم يستوقف كثيرين، أن الولايات المتحدة لن تتهاون في دعم أي مشروع بمنظمة الأمم المتحدة لمحاسبة الحوثيين على جرائمهم في اليمن، مؤكداً في الوقت ذاته التزام الولايات المتحدة بتقديم حل سياسي للأزمة اليمنية.
والسؤال المطروح هنا: أي من الخيارين سيشهده عام 2022: دعم أميركي لمشروع أممي لمحاسبة الحوثيين على جرائمهم في اليمن؛ أم تقديم حل سياسي للأزمة اليمنية؟ وهل في الافتراض الأول سيلقى المشروع موافقة الدول الأعضاء الخمس في مجلس الأمن الذي وضع اليمن في قراراته السابقة في «الفصل السابع»؛ أم إنهم سيستخدمون حق «الفيتو» ضد مشروع كهذا؟
وللحديث بقية…
*نشرت أولاً في “الشرق الأوسط”