هيكل.. نهاية حقبة “الذاكرة الانتقائية” (بورتريه)
كان يمتلك قدرة عجيبة على اختيار وقت الظهور ووقت الاحتجاب، ويعرف تماما متى يتحدث ومتى يلتزم الصمت، لكنه في الشهور الأخيرة التي سبقت رحيله، قال الكثير من الكلام الذي يصنف ضمن ما يتفوه به المرء في خريف العمر، فكان ما قاله “خريف الغضب”.
علي سعادة/ عربي21
كان يمتلك قدرة عجيبة على اختيار وقت الظهور ووقت الاحتجاب، ويعرف تماما متى يتحدث ومتى يلتزم الصمت، لكنه في الشهور الأخيرة التي سبقت رحيله، قال الكثير من الكلام الذي يصنف ضمن ما يتفوه به المرء في خريف العمر، فكان ما قاله “خريف الغضب”.
يقال إن سبب شهرته الواسعة بين العرب، هو ضعف الذاكرة العربية، وأن العرب لا يحسنون القراءة ويصرون على النوم في ظلال الكلمات.
يلقبه تلامذته والمفتونون به بـ”الأستاذ”، وكانت شخصيته من أكثر الشخصيات السياسية والفكرية إثارة للجدل والخلاف والاتفاق، فهو خليط من مدارس سياسية وفكرية وصحافية ولدت مع ثورة 23 تموز/ يوليو عام 1952.
يرفض أن يصف ما يشهده العالم العربي هذه الأيام بـ”الربيع العربي”، مصرا على أنه “سايكس بيكو” جديد لتقسيم العالم العربي وتقاسم موارده ومواقعه ضمن ثلاثة مشاريع: الأول غربي “أوروبي- أمريكي” والثاني إيراني، والثالث تركي، بالإضافة إلى نصف مشروع إسرائيلي لإجهاض القضية الفلسطينية.
يتحدث أحيانا كما لو كان عرافا أو قارئا للمستقبل، ويكتب بحذر حتى لا يقع في حقول التأويل والتشكيك، لذلك طلب من قناة “CBC” الفضائية المصرية، عدم إذاعة حواره التلفزيوني الذي أجرته معه لميس الحديدي، والذي كان مقررًا إذاعته بالتزامن مع بدء القمة العربية، بعد أن تحدث في الحوار عن استبعاده تحرك دول الخليج لضرب الحوثيين، ودعوته مصر لقيادة الحرب ضد الحوثيين والتصديق على فكرة تشكيل قوة عربية فورية في القمة تبدأ بعدها في ضرب الحوثيين. ولكن مبادرة السعودية بـ”عاصفة الحزم” أظهرت فشل وعدم دقة تحليل هيكل، فطلب عدم بثه.
وكان سيوضع في موقف محرج في حال بثه وقت ذاك، لأن تحليله للأحداث وتوقعاته فشلت هذه المرة، وخشي فقدان مصداقيته؛ فطلب من القناة تأجيل الحوار وإجراء حوار بديل معه.
يوصف بأنه ناصح الرؤساء وعراب الانقلاب الذي قام به المشير عبدالفتاح السيسي في تموز/ يوليو عام 2013 ضد الرئيس محمد مرسي، وبأنه من يقوم بصياغة السياسة في مصر.
وهو ما كشفته تسريبات قناة “مكملين”، حيث اتضح أن هيكل أشرف على كتابة البرنامج الانتخابي للسيسي قبل الانتخابات الرئاسية، بعدما قاد في بداية الانقلاب، بشكل مباشر وغير مباشر، حملة إعلامية لتسويق السيسي، وأطلق حملة قارنت بين السيسي وعبد الناصر، في محاولة لكسب التأييد الشعبي له باعتباره الرئيس القوي ومستقبل مصر.
لكن هيكل وفي مقابلة تلفزيونية في شباط/ فبراير عام 2014، نفى إشرافه على كتابة البرنامج الرئاسي للسيسي، مؤكدًا أن السيسي هو من سيقوم بهذه المهمة بنفسه، وهو ما أثبتت التسريبات زيفه وعدم صحته لاحقًا.
محمد حسنين هيكل المولود عام 1923 في قرية باسوس إحدى قرى محافظة القليوبية، يعد أحد أشهر الصحفيين العرب والمصريين في القرن العشرين، أصدر أول كتبه عام 1951 بعنوان” إيران فوق بركان”.
دخل دائرة الضوء في السياسة والإعلام المصري والعربي في عام 1952، حين لازم جمال عبد الناصر قائد الثورة. ويبقى قريبا منه ومتابعا له على المسرح ووراء الكواليس بغير انقطاع وبشكل منتظم، مسجلا جميع حواراته التي استمرت طيلة فترة حكمه حتى وفاته في عام 1970.
ويفاتحه في عام 1956 علي باشا الشمسي، بوصفه عضو مجلس إدارة صحيفة “الأهرام” لتولي منصب رئيس تحرير صحيفة “الأهرام”، لكن هيكل الذي يوقع على مشروع عقد مع بشارة تقلا، صاحب أكبر حصة في ملكية “الأهرام”، يبقى خارج مبنى الصحيفة لسنة كاملة، ويدخل الصحيفة فعليا في صباح يوم 31 تموز/ يوليو من عام 1957.
لم يقبل هيكل تقلد المنصب الحكومي إلا في عام 1970، حين تقلد منصب وزير الإعلام، ثم أضيفت إليه وزارة الخارجية لفترة أسبوعين في غياب وزيرها الأصلي محمود رياض.
ورغم رحيل جمال عبدالناصر المفاجئ، فإن هيكل بقي قريبا من العهد الجديد الذي بدأ مع الرئيس أنور السادات. ففي تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، كتب هيكل التوجيه الاستراتيجي الصادر من السادات إلى القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية الفريق أول أحمد إسماعيل علي، وفي هذا التوجيه تحددت استراتيجية الحرب، بما فيها أهدافها، وترتب على هذا التوجيه تكليف مكتوب أيضا للفريق أول أحمد إسماعيل علي ببدء العمليات، وقعه الرئيس السادات يوم 5 تشرين الأول/ أكتوبر.
وكتب هيكل للرئيس السادات خطابه أمام مجلس الشعب الذي أعلن فيه خطته لما بعد المعارك، بما فيها مقترحاته لمؤتمر دولي في جنيف، يتم فيه حل الأزمة في إطار الأمم المتحدة وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242..
لكن خلافات هيكل-السادات بدأت تظهر على السطح بعد أن كان صوتها خافتا، وكان وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين الرجلين، خصوصا بعد قبول السادات سياسة فك الارتباط خطوة خطوة – جبهة جبهة، التي رآها هيكل مقدمة لصلح مصري-إسرائيلي منفرد يؤدي إلى انفراط في العالم العربي يصعب التنبؤ بتداعياته وعواقبه.
وكان من نتائج هذا الخلاف أن أصدر السادات في عام 1974، قرارا بنقل هيكل من “الأهرام” إلى قصر عابدين مستشارا لرئيس الجمهورية، واعتذر هيكل عن المنصب قائلا: “الرئيس يملك إخراجي من الأهرام، وأما أين أذهب بعد ذلك فقراري وحدي.. وقراري هو أن أتفرغ لكتابة كتبي… استعملت حقي في التعبير عن رأيي، ثم إن الرئيس السادات استعمل سلطته”.
وضمن العلاقة غير المتزنة والمتقلبة مع نظام السادات، طلب منه ممدوح سالم في عام 1975 الاشتراك في وزارة جديدة نائبًا لرئيس الوزراء ومختصًا بالإعلام والثقافة، لكن هيكل قدم اعتذاره مبدياً أسبابه المفصلة.
وهكذا وجد هيكل نفسه ممنوعا من السفر في عام 1978، وتم سحب جواز سفره، وحول إلى المدعي الاشتراكي بناء على قائمة أرسلها وزير الداخلية النبوي إسماعيل، وبدأ المدعي الاشتراكي بالتحقيق مع هيكل في ما نسب إليه من نشر مقالات في الداخل والخارج تمس سمعة مصر، واستغرق التحقيق عشر جلسات، بثلاثين ساعة، على مدى ثلاثة أشهر، هي موسم صيف بأكمله (يونيو ويوليو وأغسطس).
وفي أواخر السبعينيات ومع انتصار الثورة في إيران، التقى هيكل بـالإمام الخميني لأول مرة ليكون خاتمة هذا اللقاء كتاب “The Return Of The Ayatollah” الذي صدر بطبعته الإنجليزية عام 1981، وصدر الكتاب بطبعته العربية تحت عنوان “مدافع آية الله – قصة إيران والثورة” في عام 1982.
في تلك الفترة أيضا وضع هيكل وراء قضبان سجون طرة مع كثيرين غيره لم يجدوا مفرًا أمامهم عند نقطة فاصلة من تاريخ مصر، غير حمل سلاح الموقف والقلم والكلمة والدخول إلى ساحة المعركة بأقلامهم.
ولكنه فيما ترجم علاقاته المتقلبة مع السادات في كتابين، هما “خريف الغضب” و”قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات” وصدرا في عام 1983، فقد كانت علاقة هيكل مع السلطة ليست على ما يرام مع تسلم محمد حسني مبارك السلطة بعد اغتيال السادات. وبقيت علاقة متوترة متقلبة لا تدوم على حال.
ومع بلوغه الثمانين عام 2003، فقد اعتزل هيكل الكتابة المنتظمة والعمل الصحافي، وكان وقتها يكتب بانتظام في مجلة “وجهات نظر” ويشرف على تحريرها.
ولكن هيكل لم يغب عن المشهد الإعلامي العربي؛ فقد واصل مساهماته بإلقاء الضوء بالتحليل والدراسة على تاريخ العرب المعاصر الوثيق الصلة بالواقع الراهن، مستخدمًا منبرًا جديدًا غير الصحف والكتب، هو التلفزيون.
يتهمه البعض بممارسة التزوير في ذكر بعض الأحداث التاريخية، والاختلاف بين كتبه المنشورة باللغة الإنجليزية وأصولها العربية. ومن أبرز من سلط الضوء على كتاباته الكاتب محمد جلال كشك، في كتابه “ثورة يوليو الأمريكية”، حيث ناقش هيكل في كثير مما يعتبره تزويرا للتاريخ، وألمح إلى أن هيكل عميل لوكالة المخابرات الأمريكية، وهو اتهام لا يقوم على أي حقائق أو دليل.
ويقول خصومه إنه لا يروي القصة إلا بعد موت جميع شهودها، حتى لا يتسنى لأحد تكذيبه. وهو ما تفنده كتبه التي كان بعضها عن أحداث وأشخاص كانوا على قيد الحياة.
هل اختفى هيكل الذي كنا نقرأ له وننتظر مقالاته بشغف؟ هل سقط القناع عن الوجه الحقيقي له؟ هل نظلم الرجل حين نحكم عليه من خلال مواقفه في العامين الماضيين فقط؟ هل باعنا هيكل الوهم طيلة 65 عاما؟ هل وصل هيكل إلى مرحلة من العمر تمنعه من رؤية الأحداث بمنظار محايد وغير منحاز؟
هيكل.. اسم عربي كبير، كان يحتاج إلى قليل من الصمت والتسامح مع نفسه، لكنه رحل دون أن يكفر عن بعض خطاياه واخطائه.
ومات راوي الحكايات التي مات شهودها والذين عاصروها، ولم يعد بإمكان أحد تصحيح الرواية أو نقضها..