نحن نولي القليل من الاهتمام بمسألة توفير حكم فاعل كقيمة ديمقراطية حاسمة. وجميعنا على دراية جيدة بالتهديدات التي ينطوي عليها الانحسار الديمقراطي وصعود القوى غير الليبرالية داخل العديد من الديمقراطيات، بما في ذلك الولايات المتحدة. ومع ذلك، يتمثل التحدي الأكثر انتشاراً، وربما الأعمق، في مواجهة جميع الديمقراطيات الغربية تقريباً في وقتنا الحاضر، التشرذم السياسي للأصعدة السياسية الديمقراطية.
والمقصود بالتشرذم السياسي، تشتت السلطة السياسية لتصبح في العديد من الأيدي المختلفة ومراكز السلطة، بحيث يصبح من الصعب على الحكومات الديمقراطية العمل بفاعلية.
الواضح أن الرئيس بايدن أدرك هذا التحدي التاريخي، الأمر الذي دعاه لأن يصف المهمة الحاسمة لرئاسته بأنها كسب «المعركة بين الديمقراطيات في القرن الحادي والعشرين في مواجهة الأنظمة الاستبدادية».
ومع ذلك، وحتى في ظل الهيمنة الكاملة على الحكومة، أرجأت الانقسامات الداخلية داخل الحزب الديمقراطي تمرير مشروع قانون البنية التحتية المقدم من جانب الحزبين لعدة أشهر.
الحقيقة أنه عندما تبدو الحكومات الديمقراطية غير قادرة على الوفاء بوعودها، فإن هذا الفشل يمكن أن يؤدي إلى العزلة وانعدام الثقة والانسحاب من جانب العديد من المواطنين. ومن الممكن أن يؤدي ذلك أيضاً إلى مطالب بنقل السلطة إلى أيدي قادة استبداديين يعدون بإنهاء ما ينعتونه بالسياسات الفوضوية. في أقصى صوره، يمكن أن يقود ذلك الناس إلى التشكيك في الديمقراطية نفسها والانفتاح على أنظمة الحكم المناهضة لها.
ويعتبر كفاح إدارة بايدن من أجل تنفيذ أجندتها السياسية مثالاً جيداً على التشرذم السياسي الذي تعانيه مختلف الديمقراطيات الغربية. الملاحظ أن هذا التشرذم يتخذ أشكالاً مختلفة داخل أنظمة التعددية الحزبية في أوروبا ونظام الحزبين في الولايات المتحدة. في الوقت الراهن، تشهد الديمقراطيات الأوروبية تفكك الأحزاب والائتلافات الرئيسية التي لطالما هيمنت على المشهد السياسي – يسار الوسط ويمين الوسط – والائتلافات التي حكمت منذ الحرب العالمية الثانية.
أما الدعم الشعبي لهذه الأحزاب، فانقسم باتجاه أحزاب جديدة من تياري اليمين واليسار، إلى جانب أحزاب أخرى ذات ميول آيديولوجية أشد صعوبة في تحديدها. من عام 2015 إلى عام 2017، دخل أكثر عن 30 حزباً سياسياً جديداً البرلمانات الأوروبية. وبمختلف أرجاء الديمقراطيات الأوروبية، تراجعت على نحو كبير نسبة الأشخاص الذين يدعمون بقوة حزباً سياسياً ما أو هم أعضاء في أحد الأحزاب.
وترك هذا الأمر تأثيراً هائلاً على القدرة على ممارسة الحكم. على سبيل المثال في ألمانيا، الدعامة المستقرة لأوروبا منذ خمسينات القرن الماضي، اعتاد الحزبان الرئيسيان بانتظام الحصول على أكثر عن 90% من الأصوات مجتمعة. خلال الانتخابات التي أجريت هذا الخريف، انحسرت هذه النسبة إلى ما دون 50%. وتحول الدعم باتجاه أحزاب الخضر وأحزاب أخرى مناهضة للمهاجرين والسوق الحرة وغيرها. وبعد انتخابات عام 2017، وبدعم منقسم بين العديد من الأحزاب، استغرقت ألمانيا ستة أشهر كاملة لتشكيل ائتلاف حاكم، ما يشكل أطول فترة في تاريخ البلاد. أما هولندا، فقد احتاجت بعد انتخابات عام 2017، إلى 225 يوماً لتشكيل الحكومة، ما يمثل فترة قياسية في تاريخ البلاد.
وبطبيعة الحال، اتسمت الحكومات الائتلافية التي جرى تجميعها وسط هذا التنافر بين الأحزاب، بدرجة أكبر من الهشاشة. في إسبانيا، على سبيل المثال، اضطرت إلى إجراء أربعة انتخابات وطنية بين عامي 2015 و2019 من أجل الوصول إلى ائتلاف حاكم مستقر. كانت إسبانيا ديمقراطية من حزبين بشكل فعال حتى عام 2015، لكن حركات الاحتجاج الجماهيرية أدت إلى انتشار أحزاب جديدة جعلت تشكيل حكومات مستقرة أمراً صعب المنال. وفي السويد، خسر رئيس الوزراء تصويتاً بحجب الثقة هذا الصيف – الأول من نوعه في التاريخ السياسي الحديث للبلاد. كما ظهرت حركات سياسية رقمية من العدم وتعطلت الحياة السياسة على نحو جذري، كما فعل حزب «بريكست» في بريطانيا وحركة «الخمس نجوم» في إيطاليا.
الواضح أن ذات القوى التي تقود الانقسام في الديمقراطيات الأخرى تثير القلق داخل الولايات المتحدة هي الأخرى، على الرغم من أن هياكلنا الانتخابية الأميركية تجعل وجود أطراف ثالثة فاعلة أمراً مستبعداً إلى حد بعيد. هنا، زحفت قوى الانقسام إلى داخل الحزبين الرئيسيين. أما المثال الأكثر دراماتيكية على الجانب الجمهوري، فهو أنه عندما سيطر الحزب على مجلس النواب بين عامي 2011 و2019، قضى على اثنين من أبرز أعضائه، جون بونر وبول ريان. وترسم مذكرات بونر صورة كتلة حزبية منقسمة داخلياً بحيث تتعذر السيطرة عليها.
وبالمثل، تدور القضية المركزية أمام إدارة بايدن حول ما إذا كان الحزب الديمقراطي قادراً على التغلب على صراعاته الداخلية لتقديم سياسات فاعلة. من اللافت للنظر أن رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي حددت موعد التصويت على مشروع قانون البنية التحتية، لكنها سرعان ما سحبته لعجزها عن تقديم عدد كافٍ من أصوات الديمقراطيين، ما يعتبر بمثابة دليل غير عادي على مدى الصعوبة التي تواجهها رئيسة مجلس النواب في جمع أصوات أعضاء حزبها في خضم قوى الانقسام المهيمنة على الساحة.
الملاحظ أن قوى هيكلية ضخمة تسببت في تفتيت السياسة في جميع أنحاء الغرب. على الجانب الاقتصادي، تتضمن هذه القوى العولمة التي تسببت في ركود دخول الطبقتين الوسطى والعاملة، وتفاقم عدم المساواة والغضب بسبب الأزمة المالية التي ضربت العالم عام 2008. وعلى الجانب الثقافي، لعبت صراعات الهجرة والقومية وقضايا أخرى دوراً بارزاً في حالة التشرذم.
منذ الحرب العالمية الثانية في أوروبا، مثلت أحزاب اليسار الناخبين الأقل ثراءً وتعليماً. الآن، تحول هؤلاء الناخبون إلى قاعدة للأحزاب على اليمين، في الوقت الذي تحول الناخبون الأكثر ثراءً وتعليماً إلى دعم أحزاب يسارية. أما الأحزاب الرئيسية، فتكافح لمعرفة كيفية تصحيح الائتلافات الفائزة في خضم هذا التحول المدمر.
علاوة على ذلك، كانت ثورة الاتصالات هي الأخرى قوة رئيسية وراء خلق التشرذم المعطل للسياسة. وفي جميع أنحاء أوروبا، أدى ذلك إلى ظهور حركات احتجاجية غير منظمة وغير محكومة بالقيادة تعطل السياسة وتولد أحزاباً أخرى جديدة، إلا أنها في الوقت ذاته جعلت من الصعب بناء حكومة فاعلة.
في الولايات المتحدة، كان من شأن بزوغ عصر الاتصالات الجديد ظهور سياسيين مستقلين. وبالتأكيد، من الأصعب حكم الكونغرس في ظل وجود المزيد من الأعضاء المستقلين. حتى في سنواتهم الأولى في المنصب، لم يعد أعضاء الكونغرس من الأفراد المستقلين (مثل ألكساندريا أوكاسيو كورتيز أو تيد كروز) بحاجة إلى شق طريقهم من خلال قنوات حزبية أو العمل في اللجان الرئيسية لجذب الأنظار والتأثير على الصعيد الوطني.
ومن خلال القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح باستطاعة أعضاء الكونغرس الأفراد العثور على جمهور داعم لهم. ومن خلال جمع الأموال عبر الإنترنت (خاصة التبرعات الصغيرة)، يمكن للسياسيين (وخاصة من المتطرفين) أن يصبحوا آلات فعالة لجمع الأموال بمفردهم. والواضح أنه في الحقبة الراهنة، أصبح قادة الأحزاب يفتقرون إلى النفوذ الذي كانوا يتمتعون به في السابق لإجبار أعضاء أحزابهم على قبول خط الحزب. ولهذا، يستقيل اليوم رؤساء المجالس البرلمانية أو يعيدون تحديد مواعيد التصويت على مشروعات القوانين التي يتعذر عليهم ضمان تمريرها.
ويعكس الانقسام السياسي الذي يضرب الآن جميع الديمقراطيات الغربية تقريباً استياءً عميقاً من قدرة الأحزاب والحكومات التقليدية على تقديم سياسات فاعلة. ومع ذلك، فإن هذا التشرذم يجعل الأمر أكثر صعوبة على الحكومات للقيام بذلك. وبذلك، يبدو بايدن محقاً في قوله: «يجب على الديمقراطيات معرفة كيفية التغلب على قوى الانقسام لتظهر مرة أخرى أنها تستطيع تقديم حكومة فاعلة».
* خدمة «نيويورك تايمز»