يمضي الحوثيون في بناء دولتهم الجديدة، دولة آل البيت في مواجهة اليمنيين.
لا علاقة لهذه الدولة بالمفهوم الحديث للدولة، فهي تقوم على الواجبات فقط، واجبات اليمنيين المفترضة تجاه “أحفاد الرسول”، و”أعلام الهدى” إلى آخر قائمة ايديولوجيا الفرز العنصري الصاعدة منذ سنوات في اليمن، أما الحقوق فمحصورة بالحوثيين وحدهم، بما مُنح لهم من اختيار إلهي بحسب عقيدة الدولة التي يروجون لها.
بدأت ملامح دولة الواجبات عقب استيلاء الحوثيين على الدولة عام 2014، إذ تم إقصاء معظم الموظفين والمسؤولين، مقابل تعيين طبقة جديدة من الموظفين على أساس سلالي بحسب ألقاب العائلات التي ينتمون إليها. من الخطأ إطلاق لفظ “الانقلاب” على سيطرة الحوثيين على الحكم، لأن الانقلاب يعني الاستيلاء على مؤسسات الدولة والحكم من خلالها. لكن الحوثية ترى نفسها خارج الدولة بما هي أقلية عرقية وطائفية أقل وأضيق من قدرتها على تشكيل طبقة حاكمة تمثل كل أطياف اليمنيين. وعلى هذا الأساس انقسمت مؤسسات الدولة في عهد الحوثيين إلى طبقتين متمايزتين: الطبقة الأولى هي طبقة الهاشميين الذين تم تعيينهم بعد 2014 وهؤلاء يستلمون مرتباتهم بانتظام من حسابات لا تدخل خزينة الدولة الرسمية ويتمتعون بأمان وظيفي نابع من ارتباطهم بالنخبة الحاكمة وهي بدورها نخبة سرية تحكم من خارج مؤسسات الدولة. والطبقة الثانية يمثلها اليمنيون الذين يعملون بالسخرة بلا مرتبات ويواجهون التهديد الدائم بالفصل والتنكيل إذا طالبوا بحقوقهم.
أما ايديولوجيا الدولة الجديدة فهي ايديولوجيا بنت ملامحها من تراث “آل البيت” أي أهل نبي الإسلام في مقابل “الأنصار”. والأنصار هي التسمية المفضلة لليمنيين في خطابات القيادة الحوثية. وهي استيراد محدث لثنائية قريش (المهاجرين) مقابل الأوس والخزرج (الأنصار)، في السردية الشائعة للسيرة النبوية. ولأن الأنصار من جذور يمنية بينما ينظر الحوثيون لأنفسهم كأحفاد الرسول من الفرع الهاشمي لقريش، فهم يعيدون إنتاج الثنائية في القرن الحادي والعشرين.
تقوم أيديولوجيا دولة “أعلام الهدى” الحوثية على الثنائية التبسيطية التالية: كان دور اليمنيين عبر التاريخ هو نصرة آل البيت. ابتداء من نصرة الرسول في المدينة والتضحية بأموالهم وأرواحهم لتأسيس المشروع السياسي الهاشمي الأول، وصولاً الى استقبال علي بن أبي طالب عند وصوله إلى اليمن في عهد الرسول واعتناق الإسلام على يديه (بحسب السردية الشيعية) وهي لحظة ارتباط اليمنيين بعلي وبأولاده من بعده ودفاعهم عن حقهم في الحكم والسلطة.
لبناء القاعدة الاقتصادية للدولة المستجدة أصدرت الحوثية اللائحة التنفيذية لقانون الزكاة 2020 الذي احتوى على مواد عنصرية تمييزية، لمصلحة من سمّتهم اللائحة “بني هاشم”، و”آل البيت”، وهم المواطنون الذين يدعون انحدارهم من نسل الحسن والحسين بن علي ابن عم النبي محمد، ووضعوا فيه تشريعاً يخصص 20 في المئة من ثروات الأمة من نفط وغاز ومعادن لمصلحتهم.
الفرز الاقتصادي الواضح لليمنيين على أساس عرقي تحت مبدأ الخمس، يتم تأكيده عبر الدور المتعاظم لهيئة الزكاة بميزانيتها الضخمة التي يتم جمعها بالقوة والتهديد من المواطنين الفقراء. بحسب سردية دولة الفرز السلالي، لا يجوز لآل البيت أن يستفيدوا من الزكاة لأنها “أوساخ الناس” وتبقى الزكاة حقاً للمواطن اليمني الفقير. لكن المشكلة ان دولة الزكاة والخمس ترفض دفع مرتبات اليمنيين منذ خمس سنوات، وتحاول تقديم الزكاة كبديل للمرتبات بطريقة تجعل اليمنيين أمام تقسيم ثنائي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقسيم “آل البيت- الأنصار”. بناء على هذا التقسيم يبقى الوضع الطبيعي لليمني أن يظل فقيراً يدفع الزكاة أو فقيراً يستفيد من الزكاة، أما آل البيت فلهم مكاسب أخرى من السلطة والثروة.
لا شبيه للدولة التي يبنيها الحوثيون بأناة إلا دولة الفرز العنصري السابقة في جنوب أفريقيا. ولتأكيد عملية الفرز العنصري داخل الدولة الحوثية على المستوى السياسي بعدما تمت على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، يتم تحديد “بداية التاريخ” السياسي اليمني بعام 896، وهو عام قدوم الهادي يحيى بن الحسين إلى اليمن وتعيينه إماماً على اليمنيين بدعم من قبائل صعدة وخولان. وبناء على هذه الرواية، فإن أئمة اليمن الهاشميين اللاحقين هم من أبناء الهادي الذي أعاد تمثيل ثنائية “آل البيت والأنصار” داخل اليمن هذه المرة. وكما قدم اليمنيون دماءهم وأموالهم لنصرة الرسول ثم لنصرة ابن عمه علي وأولاده من بعده، ها هم مرة أخرى يقدمون النصرة بالدم والمال لحفيد الرسول الهادي ويؤسسون دولة آل البيت على أطراف الخلافة الإسلامية المتفككة.
تخلي سلطة الأمر الواقع في صنعاء عن تقديم أبسط الخدمات للمواطنين الخاضعين لها، وإصرارها في الوقت نفسه على فرض جبايات باهظة دون مراعاة ظروف الفقر والحرب، مسألة غير بعيدة من هذا التعريف الأيديولوجي لهوية اليمني كهوية تضحية بالمال والنفس والأولاد. وحين الحاجة تمد أيديولوجيا دولة الفرز العنصري الحوثية تاريخ هذه التضحية إلى بدايات الإسلام وإلى أول “شهيد”؛ في الإسلام، عمار بن ياسر اليمني. في هذه الأيديولوجية هناك طرفان؛ الأول هو “أعلام الهدى”، والثاني هم اليمنيون عموماً. دور أعلام الهدى هو الحكم السياسي والاجتهاد الديني الحصري، ودور اليمنيين هو القتال والتضحية و”الاستشهاد” من أجل نصرتهم.
في هذه الدولة يفقد اليمني حقه في اختيار الحاكم لأنها مسألة محسومة بتعيين إلهي، ويفقد حقه في التحكم في ماله لأنه تحت رحمة الجبايات المتتالية من حراس الدين وورثة النبوة. وفوق ذلك فقد اليمني حقه في الحفاظ على حياته لأن دوره محصور في النصرة والتضحية.
على رغم الروابط الأيديولوجية والطائفية المتينة بين الدولة الحوثية ودولتي الخميني في إيران و”حزب الله” في لبنان، إلا أن الحوثية تختلف جذرياً عن الأخيرتين. أسست الخمينية لدولة رجال الدين في إيران، وأعادت صياغة مؤسسات الدولة والجيش والمخابرات لتكون أجهزة الولي الفقيه لا أجهزة الدولة. بالمقابل لا يسعى “حزب الله” لتأسيس دولة رجال الدين في لبنان بل إلى تأسيس دولة الحزب ودولة “الطائفة المتغلبة” على أنقاض دولة التوازن الطائفي. أما الحوثية فليست حركة طائفية كما يظن الأغلبية، بل هي حركة عرقية/ عنصرية. وهي لا تهدف إلى نشر وعي طائفي أو مذهب معين بقدر ما تهدف إلى نشر الأفكار التي تدعم سيطرة السلالة على السلطة والثروة. لذلك جاءت أفكارها خليطاً من “الإثنا عشرية” والزيدية والسلفية والإخوانية وهي تعمل بتكتيك عابر للمذاهب، استطاع نشر التشيع حتى داخل البيئات السنية والصوفية في اليمن انطلاقاً من تقديس تلك المذاهب لآل البيت.
من هنا يأتي اختلاف دولة الفرز العنصري الحوثية. دولة آل البيت في مقابل اليمنيين. إنها دولة خارج الدولة وأقلية ترفع نفسها فوق المجتمع وتبقي نفسها خارجه ولا تستطيع التعامل معه وفق مفهوم المواطنة، إنما بمفهوم “النصرة” والتضحية والموت.
*نشر أولاً في موقع “درج”