اليمن أمام طريق واحد… السلام
منذ أن بدأتُ الكتابة بانتظام في صحيفتي “الشرق الأوسط” و”عكاظ” السعوديتين، ثم صحيفة “الراية” القطرية (لفترة قصيرة)، وأخيراً في موقع “اندبندنت عربية”، أتيحت لي الفرصة كاملة للتعبير عن رأيي من دون قيود، سوى ما يمكن أن تكون له تبعات قانونية. وكنت في معظم ما أكتب أوجه نقدي الحاد إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكوماته المتعاقبة. ولا يعني هذا أنني لم أتناول ما تمارسه المؤسسات التابعة لجماعة “أنصار الله” الحوثية من انتهاك لحقوق الناس ومصادرة أموالهم والاعتداء على ممتلكاتهم. ولعل أبشع ما تقوم به هو الاستمرار في تجنيد الأطفال قسراً. وتغيير مناهج التعليم في كل مراحله بما يتناسب مع توجهاتها المذهبية. وصحيح أنني كنت أشد قسوة على الشرعية على الرغم من اعترافي بها انطلاقاً من مبدأ راسخ لديَّ هو أن الدولة هي الملجأ، ما يفرض علينا واجب تقويمها عبر فضح الممارسات المخالفة والبالغة الضرر، وكانت سبباً رئيساً في إطالة أمد الحرب، وليس تزييف الواقع والتزلف للحصول على وظيفة أو مساعدة مالية.
كنت وما زلت في كل ما أكتبه عن الأوضاع في اليمن أو أتحدث به في مقابلات مثبتة ومنشورة، أحذر من مغبة التساهل مع الجماعات المسلحة والتهاون في تحجيم قوتها وضبطها، لكن الأمر على الأرض قبل اندلاع الحرب كان يدار بطريقة مختلفة تماماً، إذ كانت القوى السياسية تتعامل مع هذه الجماعات المسلحة بأسلوب التذاكي، في محاولة لكسبها في المعارك التي أخذت الطابع الشخصي نكاية بهذا الفريق أو ذاك.
وهذا الصنيع كان له الأثر الأكبر في تمدد جماعة “أنصار الله” الحوثية لأنها كانت أكثر حذقاً، فجعلت الكل يطلب التقرب منها والدفاع عما كانوا يطلقون عليه “مظلومية صعدة”، التي كانت تعبيراً عن تناقص أعداد أتباع المذهب الزيدي مقابل تزايد أتباع المذهب الشافعي في المناطق الجغرافية التي كانت تاريخياً معروفة بزيديتها، لكنه في حقيقة الأمر كان مدخلاً لمشروع يتجاوز إنهاء “المظلومية” إلى الاستيلاء على مقدرات الحكم. ولقد حدث هذا تحت سمع وبصر الجميع، بل إن كثيراً من الحزبيين لم يكترثوا، بل اتخذوا موقف الحياد إزاء حروبها شمال العاصمة.
في ديسمبر (كانون الأول) 2010، التقيت مسؤولاً سعودياً (لا يزال موجوداً في موقع رسمي رفيع)، وقلت له حينها بالحرف الواحد “إيران صارت جارتكم”. قال “كيف؟”. وكان ردي أن “هناك أعداداً من الطلبة الذين يذهبون إلى إيران ليدرسوا ويتدربوا تتم أدلجة أعداد منهم”. وتناقشنا كثيراً في الموضوع. بعد أقل من شهرين التقينا ثانية، وقال لي “لقد أبلغت الرسالة إلى أعلى مستوى”. لا أدري ما حدث بعدها، وما الإجراءات التي تمت وكيف تم التعامل مع الموضوع، ولكن ظني اليوم أن لا أحد حينها أخذ الأمر على محمل الجد أو ربما تمت الاستهانة بالرسالة.
اليوم، بعد سنوات الحرب، يتكرر السؤال المحير في أذهان الراغبين بوقف الحرب “كيف يمكن لها أن تتوقف قبل تحقيق نصر واضح لأحد الطرفين؟ وهل هذا النصر ممكن؟”.
يمكن توصيف ما يدور حالياً من ارتفاع في وتيرة الحرب على أنه في أفضل الاحتمالات إنهاك للجميع، وعلى الرغم من كلفته البشرية المفزعة، لعله يدفع إلى إجبار الأطراف اليمنية أو يقنعها بالتوجه إلى طاولة الاجتماعات التي كنت وما زلت أصر من اليوم الأول على أن تسليم ملفاتها إلى الأمم المتحدة لن يعود بالنفع على اليمنيين وأنه من الأجدى إبقاؤها في نطاق المحيطين المحلي والإقليمي، لكن هذا كان بحاجة إلى مستوى من الثقة تآكل بمرور الوقت، ولم يعد من الممكن الحديث إلا عن حسم عسكري سيتطلب كسر العظم.
استمرار الحرب يتيح لجماعة “أنصار الله” الحوثية فرصة تحتاج إليها لتجريف المناهج التعليمية في المراحل المبكرة من التعليم الأساسي، وهي قضية تتقدم في مخاطرها وآثارها المستقبلية على ما عداها من القضايا، لأنها تخلق أجيالاً لا يجمع بينها مشترك وطني، بل على العكس من ذلك فهي تؤسس لتنشئة أقرب إلى غسل الدماغ. وتزداد فداحة تأثيراتها إذا ما أُضيفت إليها المعسكرات الصيفية التي على الرغم من أنها تجمع أطفالاً ويافعين من مختلف مناطق اليمن، فإن الغرض الحقيقي منها والمخرجات الطبيعية لها هما كتوجيه قسري نحو أهداف لا يعيها من في تلك المراحل العمرية.
ستدخل الحرب بعد أشهر قليلة عامها الثامن، وستواصل مساراتها التي ثبت معها عقم السياسات التي تمت تجربتها، خصوصاً التصعيد العسكري الذي لم يحقق نتائج ملموسة لأسباب كثيرة منها الفساد الذي يعترف به الجميع، كما أن جماعة “أنصار الله” الحوثية لم تتفهم التحول في النظرة الأوروبية والأميركية للحرب، وأن هذه الدول تريد إغلاق الملف للتفرغ لما هو أهم بالنسبة إليها. ولكن الرسالة التي يجب قراءتها الآن بهدوء هي أن العالم كله مجمع على أن دول الإقليم مسؤولة عن إدارة قضاياها بتفاهمات بينية وجماعية، لأنها الأقدر على مراعاة المناخات السياسية والاجتماعية.
منذ عام 2015، ضاعت الفرص تباعاً، وكانت أي واحدة منها كفيلة بالتوصل إلى وقف الحرب والدخول في المسار السياسي، بداية من الكويت إلى سويسرا إلى السويد. والواقع أن الطرفين لم يكونا جادين، والثقة بينهما منعدمة. وهكذا لم يتح لأي من اللقاءات أن يحقق اختراقاً يمكنه أن يستثمر الاهتمام العالمي بالوضع الإنساني الذي تسببت به الحرب وطول أمدها.
إن ما هو واضح اليوم، أن المبعوث الأممي، السويدي الجنسية، لا يمتلك أكثر مما كان بحوزة سابقيه من دعم داخل مجلس الأمن. ولكن ما يجب أن يعيه الجميع هو أن الصراعات بين الدول الخمس الكبرى تُبحث كصفقات منفردة تبادلية المنافع، والهمّ الذي يؤرقها هو استمرار بيع السلاح كمورد حيوي لموازناتها وصناعاتها الكبرى التي يعمل بها الملايين وتدر المليارات على خزائنها، مما يستوجب استمرار بؤر الصراعات بعيداً من حدودها.
اليمن اليوم ليس في مفترق طرق، وليس أمام منعطف خطر، ولا مرحلة حرجة، فقد تجاوزها كلها ولم يبقَ أمامه إلا طريق واحد لا ثاني له، هو طريق السلام الذي يتطلب قناعة حقيقية وإرادة قوية. وهذا كله مفقود لأنه يحتاج إلى أشخاص كبار جداً يمتلكون الشجاعة على المطالبة به والدفاع عن مشروعهم والتضحية من أجله.
ويبقى أمام اليمنيين والمنطقة مبادرة طرحها ولي العهد السعودي تشكل منطلقاً لتفاهمات جادة، وهي قابلة للنقاش والتعديل، ولكنها في المجمل خطوة يجب التعامل معها بجدية وانتهاز الفرصة لوقف الحرب. فهل يتعامل معها بانفتاح قائد الجماعة بعيداً من المبعوثين الغربيين والتدخلات الإيرانية، ليبقى الأمر ضمن إطار الجزيرة العربية؟
* اندبندنت عربية