«الخطاب العربي في متاهات التراث»… محاولات نقدية حائرة ما بين الذات وهزائمها
يمن مونيتور/القدس العربي
لم يزل وسيظل وقع (التراث) بمفومه الواسع في الثقافة العربية، يمثل ظلاً من الصعب مفارقته أو تجاوزه في أفضل الأحوال، تجاوزاً نقدياً صريحاً، دونما التفاف أو توافق هو للمهادنة أقرب. وجاءت عدة محاولات لنقد هذا التراث وقراءته، من خلال عدة مناهج متفاوته، ربما يمكن من خلالها سد العجز والشعور بالنقص الكامن وراء تلك المحاولات تجاه الحالة التي تعيشها الثقافة العربية. ويأتي كتاب الباحث المصري جمال عمر «الخطاب العربي في متاهات التراث» كمراجعة نقدية لمؤلفات تناولت هذه القضية من خلال رؤى ومناهج مختلفة خاصة بأصحابها. صدر الكتاب عن دار الثقافة الجديدة في القاهرة في 173 صفحة من القطع الكبير.
المنهج
يكشف جمال عمر في مقدمته عن منهجه قائلاً.. «في هذه الصفحات أحاول أن أنظر نظرة علائقية لخطابات المراجعات الفكرية، التي تمت في ما بعد الهزيمة الكبرى عام سبعة وستين، والمراجعات التي تمت لهذه المراجعات من جيلين آخرين، ثم مراجعتي للمراجعات. ففي «مراجعات في ضوء الهزيمة» تناول علائقي لخطابي «التراث والتجديد» لحسن حنفي، وخطاب «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري، في علاقة هذه الخطابات بغيرها من الخطابات السابقة عليها والمعاصرة لها، وعلاقة كل خطاب منهما بالأخر، بل علاقة خطاب حنفي ذاته في سياق حياته ومجتمعه، وعلاقة خطاب الجابري بسياق حياته ومجتمعه، ثم مراجعة جيل تال مثل خطاب جورج طرابيشي، لمراجعات خطاب «التراث والتجديد» وخطاب «نقد العقل العربي» من خلال مراجعاته «نقد النقد». ثم مراجعة جيل ثالث من خلال نقد علي مبروك لكل من جهود حسن حنفي ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي. لأبني على كل هذه الجهود محاولة استيعابها نقديا من خلال علاقاتها، لنصعد على أكتافها وعلى ما بنت لنرى أبعد مما رأت».
ما بين حنفي والجابري
تبدأ النقطة الفاصلة من هزيمة يونيو/حزيران 1967، متمثلة في «التراث والتجديد» لحسن حنفي (1935 ــ 2021) و»نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري (1935 ــ 2010). ومن خلال حوار كل منهما، حواراً فكرياً يمكن أن يتطور إلى حوار سياسي بين المشرق والمغرب، فإن مُحرّكه الأول كان لمواجهة حالة الضعف السياسي وتفكك الشعوب العربية، بحثاً عن (الوحدة) التي يرى أحدهما قيامها على أساس (عقيدة التوحيد) والآخر يراها من خلال وحدة الثقافة العربية عامة، وخصوصية كل إقليم، أحدهما مثالي والآخر واقعي عقلاني. وما بين التوحيد والعروبة كان الخلاف بين الرجلين.
عقلانية الجابري
يربط الجابري بين حالة التخلف التي نعيشها و(اللاعقلانية) ويرى أن كل مفكري النهضة في الفكر العربي الحديث، تمسكوا بالتراث اللاعقلاني وتمسكوا بنقد العقلانية في الغرب. ويرى جمال عمر أن الجابري في نقده هذا تجنب عدة تابوهات، منها.. تجنب مهاجمة الفكر اللاعقلاني، وأن الوطن العربي في وضعيته الراهنة لا يتحمل نقدا لاهوتيا، لأنه «هتك لحرماتنا… حتى لا نقفز على التاريخ». من ناحية أخرى يضع الجابري الجهود التي قام بها عرب بدراسة الثقافة العربية ونصوصهم باللغة الفرنسية خارج إطار الفكر العربي، الأمر نفسه بالنسبة إلى ما كتبه تراثيون أصولهم ليست عربية، مع أنها مكتوبة بالعربية، فهو بذلك يوظف مفهوم زئبقي للعروبة، حسب حاجته للإقصاء. من جانبه يقارن حسن حنفي بين مشروعه ومشروع الجابري، فيرى مشروعه (التراث والتجديد) بأنه بدأ بمقدمة نظرية عام 1980، في حين أن الجابري لم يقدم أي إطار نظري. إضافة إلى أن مشروع الجابري (معرفي خالص) يصعب تحقيقه، وترحب به النظم المحافظة في الخليج والعربية السعودية، فهو لا يمثل أي خطر على هذه الأنظمة، أما مشروعه هو ـ حنفي ـ فـ(عملي خالص) من أجل التغيير.
رؤية جورج طرابيشي
يرى عمر أن انطلاقة جورج طرابيشي (1939 ــ 2016) جاءت من خلال التحليل النفسي، فبدأ بكتابه «المثقفون العرب والتراث.. التحليل النفسي لعصاب جماعي» عام 1991، من خلال نسق فكري ماركسي في زمن انهيار الاتحاد السوفييتي، ليرى أن هذا الفكر مرّ بثلاث مراحل.. محاولة النهوض منذ نهايات القرن الثامن عشر وحتى عشية الحرب العالمية الثانية، ثم الخطاب العربي الحديث، حيث الثورات العربية حتى هزيمة 67، وأخيراً الخطاب العربي المعاصر، وهي مرحلة الردّة الحضارية وتمدد السلفية، أو (حالة العصاب الجماعي) التي طبقها طرابيشي على حسن حنفي.
إزدواجية حسن حنفي
يرى طرابيشي قدرة حنفي الفائقة على مناقضة نفسه، تتمثل هذه التناقضات في المنهج، القضايا، المواقف، الوقائع، النصوص، وأخيراً الأشخاص، ذلك علامة على نكوص نفسي، التناقض شكله والهلوسة مضمونه. وتتوإلى تبعات هذا التحليل، فنجد طرابيشي يرى في مشروع حنفي، ما هو إلا سيرة ذاتية. أما موضوع علم الاستغراب فيراه طرابيشي مستحيل كمقابل لعلم الاستشراق، ومنه محاولة إيجاد مركزية إسلامية مقابل المركزية الغربية، وهي عملية انتقامية من حنفي، تكشف جرحاً نرجسياً. ويُلاحظ أن مشروع الجابري بالكامل لم يسلم أيضاً من نقد طرابيشي، بل أفرد له الرجل 8 كتب تقع في ما يقارب الـ 2500 صفحة!
حروب الأيديولوجيا
ويأتي علي مبروك (1958 ــ 2016) ممثلاً لجيل ثالث من جيل مراجعات التراث، باحثا من خلال علاقة خطاب النهضة مع أنظمة الفكر التي فرض الواقع عليه التعامل معها. فيرى أن حسن حنفي مثالاً جاءت محاولاته رد فعل على الهزائم، فاتخذ من الإسلام حصن دفاع، لكن ظل حضور التراث مجرد ساحة للتحديث والانتقاء، كما اعتمد حنفي على شعوره في قراءة التراث، مما جعل ذاته تتضخم. أما الجابري فسيطرت الأيديولوجيا على فكره، من خلال القطيعة والتمايز بين المشرق والمغرب. هذه الأيديولوجيا لم تختف، بل أساس الصراع بين الجابري وطرابيشي بدوره، يطلق عليها علي مبروك (أيديولوجيا الأصالة والمركز) فكل من نقد الجابري وطرابيشي ارتد بالعرب إلى ماضيهم السحيق، ليصبح الأمر لا يعدو حروب قبائل في شكل حروب أيديولوجية، ليصير النقد المعرفي في سياقنا العربي «لم تعد أهدافه تحرير الأفهام بقد ما باتت تثبيت الأوهام.. أوهام الأصالة وجدارة الصدارة والقيادة» كما ذكر علي مبروك في كتابه «ثورات العرب/خطاب التأسيس» 2012.