حين كان أفق السياسة في اليمن يمتلئ سديما، ذهب الحاكم يطبق أنفاسه على ذلك الأفق بتعديلات دستورية تؤسس لدولة الفرد، وليعلن بذلك وفاة الديمقراطية والعملية السياسية، وابتداء مرحلة الحكم العائلي.
حين كان أفق السياسة في اليمن يمتلئ سديما، ذهب الحاكم يطبق أنفاسه على ذلك الأفق بتعديلات دستورية تؤسس لدولة الفرد، وليعلن بذلك وفاة الديمقراطية والعملية السياسية، وابتداء مرحلة الحكم العائلي.
فالحوارات المتعاقبة بين المعارضة اليمنية (اللقاء المشترك) والحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) كانت قد وصلت إلى طريق مسدود، بسبب أن الأخير لم يكن سيد قراره، وعليه أن يتصرف وفق ما يعتقد أنه سيمهد الطريق للتمديد أولا والتوريث ثانيا، وليس لتصحيح المسار الديمقراطي. ثم إن العلاقة بين أحزاب المعارضة والرئيس صالح ما بعد الانتخابات الرئاسية 2006 لن تكون كما قبلها، فقد كانت أول محطة في حياة صالح الرئاسية يشعر فيها باهتزاز عرش حكمه المدعم بالمال والسلاح والإعلام والتحالفات الاجتماعية المعقدة.
ثورة الضرورة
كانت ثورة 11 فبراير/شباط 2011 نتيجة طبيعية لمسار سياسي تجرفه يد الحاكم حيث شاءت وفساد مالي وإداري وأخلاقي بلا حدود، واحتقان شعبي يزداد شراسة كلما اتسعت فجوة الفقر، وكبرت قوائم الفاسدين والمنتفعين بخيرات البلاد.
ورغم أن فترة حكم صالح (33 عاما و7 شهور) لم تقطع أي شوط كبير في مجال بناء مؤسسات الدولة، فإن سنواتها الخمس الأخيرة لم تقدم شيئا يذكر، بل جعلت التنمية والاقتصاد والاستثمار ومكافحة الفساد والبنية التحتية وإصلاح التشريعات وحقوق الإنسان كلها قصاصات صغيرة تحت ملف ضخم يجثم فوق مكتب صالح اسمه “التوريث”. أما “التمديد” فهو في متناول اليد، ولا يحتاج غير تعديلات دستورية كان صالح قد حقق جزءا كبيرا منها، أقلّها أن من صلاحياته حل برلمان الشعب، وذهب يخطط “لقلع العداد” وتمديد بلا نهاية باعتباره “الحاكم الضرورة” الذي ارتضاه الشعب.
وأي قراءة لواقع ما قبل ثورة فبراير ستفضي إلى أن ثمة ثورة جارفة تكمن تحت هذا الرماد وهذا الخراب والتجريف والاستبداد، ففي الجنوب انطلقت عجلة “الحراك” محدثة غليانا سياسيا بلا توقف، وفي شمال الشمال قدح الحوثيون شرارة حرب ستشعل حريقا بلا نهاية، وعلى الشعب اليمني أن يدفع من قوت أطفاله ثمن الغليان والحريق معا.
وتلك نتائج تشير بوضوح إلى خط سير صالح السياسي وطريقة تفكيره، فالرجل يزداد حدة وشراسة وتفردا مع مرور سنوات حكمه، وطريقة إدارته للبلاد أفضت إلى احتناق في السياسة وتدهور في الاقتصاد وفساد في مؤسسات الدولة، لأنه لم يعد يكترث بشيء، ويضيق من صوت النصيحة، وهذا ما جعله يستبعد جيل الحكماء من دائرته الضيقة (الإرياني، والأصبحي، والعنسي)، واقتصرت مشاوراته على المنتفعين الجدد من جيل النزق الشبابي (العواضي، والزوكا، والشامي، والبركاني، وأبنائه وأبناء أشقائه).
مبادرة خلاص
خلافا لما كان يخطط له صالح ويرتب له عتاده وعدته (للتخلص من أي انقلاب أو محاولة لإعاقة التمديد والتوريث)، أطل التغيير على أكتاف شباب عراة الصدور، لا يحملون غير عزيمة تعدل حجم الأرض إباء وتضحية.. خرجوا بمسيرات وهتافات فتلقفتهم رصاصات صالح، تساقطوا شهداء وجرحى كأحجار الدومينو، غير أنهم ينبعثون كالعنقاء من بين الرماد.
لم يدم صمت المجتمع الدولي أمام هذه المجازر الوحشية، وبدأ الضغط على نظام صالح للرحيل، في حين قادت الحسابات الخاطئة دول الخليج -ما عدا قطر- إلى الاعتراض على وجود ثورة حقيقية على حدودها حتى لا تكون مشجعة لثورات أخرى على أراضيها، متغافلة عدم وجود مسببات قيام ثورة في دولها، حيث لا فقر ولا غياب خدمات، ولا فساد ولا ديمقراطية كاذبة، فكان لا بد لها من حل يقضي على الطرفين: صالح يغادر وفق انتخابات ترضي غروره، وشباب ثورة يكتفون بإخراجه فقط من السلطة، بينما نظامه وحزبه ودولته العميقة تبقى كما هي، فكانت “المبادرة/المقصلة!”.
سلم صالح السلطة لنائبه، واقتسم حزبه نصف مقاعد الحكومة، وبقي هو في البلد، يفي بوعيده السابق: “البديل للنظام هو الحوثيون والقاعدة والحرب الأهلية”.. فصدق وهو كذوب، حيث اشتغلت أدواته ورجاله وأمواله في تفكيك الدولة اليمنية الحديثة، وأعاق كل خطوة للأمن والاستقرار، في مقابل ذلك كان الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي يتكئ على رجال صالح طوال فترة حكمه، ولم يبن نظامه الخاص.
الثورة المغدورة
عشية 11 فبراير/شباط 2011 امتلأت ساحات وميادين التغيير بشباب الثورة، فهذه في نظر اليمنيين امتداد طبيعي لروح الثورة الأم (26 سبتمبر/أيلول 1962)، بل كانت لازمة انتظرها اليمنيون نصف قرن، وهي المكملة لأهداف ورؤية “سبتمبر” لبناء الإنسان اليمني، ولا يمكن تحديد قائد بعينه لهذه الثورة الشعبية العارمة، غير أن حرائر اليمن كنَّ سباقات في كل مجال وباب ومبادرة ومسيرة ومظاهرة، وقد خلد التاريخ نضالهنَّ بمنح جائزة نوبل للسلام لإحدى رفيقات دربهن توكل كرمان.
والمؤكد أن الشباب هم من جروا أحزاب المعارضة إلى ميادين الثورة، بعد أن كانت تبحث عن مخرج سياسي ضاغط على صالح بإجراء إصلاحات سياسية ودستورية.
كان صالح يهدد الثوار بالحوثيين، وكان الحوثيون يديرون اللعبة بمكر كبير، فهم أحد المكونات المشاركة للثورة، بينما نزلت ذراعهم العسكرية من قمم الجبال والكهوف لتحتل مدينة صعدة عاصمة المحافظة في الشهر التالي لانطلاق الثورة. وحين كان نظام صالح يقتل شباب التغيير في كل مدينة وشارع، كان الحوثيون يقتلون أبناء محافظة الجوف بحثا عن توسع شرقا، ثم توغلوا في محافظة حجة، وكله بإيعاز وتسهيل من صالح.
وحين انسحب الشباب والمكونات السياسية من ساحات التغيير بعد خروج صالح من السلطة، بقي الحوثيون يسيطرون على ما تبقى من مخيمات داخل ساحة التغيير بصنعاء بحجة أنهم غير ملزمين بالمبادرة الخليجية التي لم يوقعوا عليها.
كان صالح يرى في الحوثيين “قوة بلا عقل” سيوظفها للانتقام ممن أخرجوه من السلطة، وكان هادي يرى فيها “قوة غبية” سيستخدمها للتخلص من صالح ودولته العميقة، ولم ينتبه كلاهما إلا أن الحوثيين حركة زرعتها مخابرات إيران وأميركا لتفكيك اليمن والخليج، ولن تسمحا بتجريفها والتعامل معها كمرتزقة للقتال فقط.
ومن الفداحة تحميل الحوثيين وحدهم مسؤولية تراجع قيم ثورة فبراير، فالوزر الأكبر تتحمله أحزاب اللقاء المشترك التي اقتتلت فيما بينها على كراسي السلطة المتهالكة، وتنكرت لكل شباب فبراير، ويتحمل الرئيس هادي ضعف وزر أحزاب اللقاء المشترك فهو من جاءت به جماجم الثوار إلى كرسي الحكم، وحين وصل واطمأن، تنكّر للثورة وسماها “أحداثا” وتارة “أزمة”، حتى من قرّبهم منه أو منحهم مواقع قيادية في الدولة هم ممن ترشحوا في قوائم الأحزاب، وليسوا باسم شباب الثورة.
وقبل أن يذهب الشعب إلى التصويت على دستور الدولة الاتحادية والمؤسس للدولة المدنية الحديثة، جاءت آلة الموت المنبعثة من كهوف صعدة وضغائن صالح وغباء هادي، وجرفت الجميع إلى المنافي والشتات، وأخذت اليمن إلى حرب شاملة تئن منها الحجار!
————
*نقلاً عن (الجزيرة نت).