لماذا تغيب «الرواية الرشيقة» في الكتابة الروائية العربية؟
د. نادية هناوي
تحظى الرواية اليوم بمكانة خاصة بين الأجناس الأدبية كالقصة القصيرة وقصيدة النثر والمقالة، وتتعدد أسباب امتلاك الرواية هذه الحظوة بيد أن تلك الأسباب بالمجموع لا تتعدى مسائل التلقي التي فيها تُلبي الرواية رغبات القراء في فهم العصر وفهم متغيرات ظروفه. ولو كانت الرواية معقدة اللغة ومركبة البناء وكانت منطوية على رؤى فلسفية جامدة وعويصة لتعسرت قراءتها، ولكان حالها حال أي مادة علمية أو فكرية تلقى اهتماماً من لدن المتخصصين حسب.
ولا خلاف في أن شمولية الرواية في رصدها الواقع بكل ما فيه من صور وممارسات وكذلك تلاؤمية لغتها وأسلوبها لمختلف الأذواق والمستويات، قد جعلتاها تقف على رأس الهرم القرائي الذي قوامه أجناس الأدب الأخرى بكل ما فيها من أنواع وأنماط وأشكال وصيغ.
وكلما كانت الرواية يسيرة وممتنعة، بدت أكثر نجاحاً من غيرها، ملبية ما يريده القراء منها، أياً كانت درجات اليسر وطبيعة التمنع. ولقد طغى سوق الرواية طغياناً واضحاً وازداد الإقبال عليها وكثُر عدد كتابها الموصوفين بأنهم روائيون. وقد يبدو هذا الازدياد في إنتاج الرواية تأليفاً ونشراً أمراً طبيعياً. وإذا ما علمنا أن غالبية المنتج الروائي يتسم بإطار واقعي، فإننا سنفهم سبب اللااكتراث لدى عدد من روائيينا العرب بتجريب أساليب جديدة في الكتابة السردية تخرق النسقية الحداثية، بل إن الغالب عليهم هو الاكتراث بمسايرة المعتاد السردي بلا تجريب ولا ابتداع، باستثناء الكتاب الذين يضعون تطلعاتهم الفنية في كفٍ، ورغباتهم الموضوعية في كف أخرى موازنين بين الفن والموضوع واضعين الشكل إزاء المضمون.
ومن مؤشرات عدم الاكتراث بفنية الرواية العربية الراهنة الاعتقاد بأنه كلما ازداد عدد صفحاتها، ظُن أن لها مستوى يؤكد ما بذله كاتبها من جهدٍ ومشقة في تأليفها. وقد لا نخالف جادة الصواب إذا قلنا إن عدداً من كتابنا المعروفين انهمكوا في إعطاء رواياتهم حجوماً كبيرة أكثر من انهماكهم في فنية ما تعكسه تلك الحجوم. فغالباً لا تتوفر فيها النوعية الفنية المميزة، وإنما هو حشو وتطويل لا يُراد منه سوى التباهي، وكأن قيمة الأشياء تكمن في ظاهرها الخارجي، وليس في نوعية ما تحويه داخلها من جمال.
عَن لي هذا الموضوع عندما أُحيلت إلي دراسة للتقييم من إحدى المجلات الأكاديمية التابعة لجامعة عربية عريقة، وكانت المادة المبحوثة رواية عربية معاصرة وصاحبها ما انفك النقد العربي يُغني رواياته بالدراسة والاهتمام أكثر من سواه. وكان الوقت المحدد لي ضيقاً والرواية موضوع البحث من بين الروايات التي لم أقرأها للكاتب، وحين حصلتُ عليها فاجأني كُبر حجمها بالقياس إلى المدة المحددة لي لإنجاز مهمة تقويم الرواية. فوجدتني أستغرق في قراءتها أكثر مما استغرق مني تقييم الدراسة النقدية نفسها. ليس ذلك حسب، بل هو ما اكتشفته من الحشو والإطالة والإغراق الذي ما كان لهذا الروائي أن يقع فيه لو أنه تقصد ترشيق جمله السردية، فجعل روايته في مائتي صفحة بدل أن تكون في خمسمائة إلا نيفاً من الصفحات.
ولعل هذا الترهل في الرواية مقصود كطريق به يُغالط الروائي نفسه ما بين التماس مع موضوع سياسي، وبين النأي عن أن يكون في موضع اتخاذ قرار يوصله إلى الاحتكاك أو التصادم مع المنظومة الثقافية التي لها الفضل أصلاً في التعريف باسمه والترويج لأعماله الروائية. ولعل كثيرين سقطوا في هذه القصدية فكانوا في دوامة التباري من الذين فهموا اللعبة الروائية، وظنوا أن قيمة الرواية هي في مدى تمطيط كاتبها الموضوع مطاً ليستطيل من دون أن يكون وراء الاستطالة أي جدوى أو ضرورة فنيتين.
ومن مؤكدات هذا التباري في التطويل، أننا لم نعد نُصادف رواية عربية عدد صفحاتها يقل عن مائة أو حتى مائتي صفحة، وكأن هناك عدوى استشرت بين الروائيين العرب وجعلتهم يرون أن من تقاليد الرواية أن تكثر صفحاتها، فتتعدى المائتين، وبغض النظر عن طبيعة الموضوعات والأساليب التي يطرقونها.
لو أمعنا النظر في الرواية العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وقبيل نهايته – أي قبل أن تستشري حمى المسابقات الأدبية – لوجدنا أن الغالب عليها حجومها التي تناسب مقتضيات محتواها الموضوعي ومتطلبات بنائها الفني، خذ مثلاً روايات نجيب محفوظ كـ«زقاق المدق» و«بداية ونهاية» و«ثرثرة فوق النيل»… إلخ، وروايات الطيب صالح، منها رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، وروايات إسماعيل فهد إسماعيل مثل «كانت السماء زرقاء»، وروايات جمال الغيطاني وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهم ممن تقع صفحات رواياتهم بين 150 إلى 300 صفحة، وهي مساحة كافية لكي يلعب فيها الروائي الحاذق مبتغياً الوصول إلى غاياته من دون إثقال مغالٍ ولا تحشيدٍ مسرف.
وما كان للروايات الكلاسيكية العالمية أن تكون بحجوم قياسية تتجاوز مئات الصفحات مثل رواية «الحرب والسلم» لتولستوي، و«الإخوة كرامازوف» لديستويفيسكي، وكذلك روايات كُتبت في القرن العشرين كـ«الدون الهادئ» لشولوخوف، لولا أن القارئ آنذاك ما كان يضايقه طول الرواية، بل كان يجد في قراءة مئات الصفحات سلوى له في وقت متسع لا وسائل تجذب وعيه فتلهيه عن التلقي المعرفي والمتعة الفنية، مما يجده القارئ اليوم الذي هو مشتت ومشغول في ظل الإنترنت، ومحاط ومحاصر بمختلف الوسائط الرقمية المتيسرة بالعموم والمتاحة والقريبة من واقعه المادي.
وليس من أمرٍ على الروائي أن يضعه في باله مثل أمر أن يؤلف رواية بها يجذب القراء، ويستقطب اهتمامهم، من خلال عدم ادخار أي جهد في سبيل ترشيق روايته ترشيقاً به تتمكن من أن تنافس ما في عالم الإنترنت من وسائط رقمية وتطبيقات حاسوبية صارت تنافس الأدب – هذا إذا كان الروائي واضعاً في حسابه القراء مطوعاً خبراته كي يظفر بأكبر قدر منهم – ومن المهم اليوم لكتاب الرواية التفكير في أيسر السبل وأرشقها، فلا يستغرقون استغراقاً ينفر القراء من أعمالهم بدل أن يجذبهم إليها.
ولا خلاف أننا في تأكيدنا خطر الترهل في الكتابة الروائية لا ندعو إلى تخطي العفوية في الكتابة، ولا إلى التعسف جوراً على الفن وتضييقاً في الموضوع، إنما نسعى إلى مراعاة الاختصار في الكتابة، وعدم إرهاق الصفحة الواحدة بعشرات الأسطر التي يمكن اختزالها في سطرين اثنين، إن لم نقل في جملتين اثنتين فقط. إذ ليس في صالح الروائي أن تبدو روايته مترهلة بفكرة محدودة وفنية متواضعة فتكون كمثل «من يحضر دجاجة ويطبخها في قزان ما» ـــ والوصف لأحمد خالد توفيق في كتابه «توتيات من العصور الوسطى، 2013» (منقول بتحوير). فتخرج الرواية للقراء مترهلة بأربعمائة أو خمسمائة صفحة أو أكثر، وقد حُشيت سطورها حشواً وحُشدت صفحاتها تحشيداً، وبغلواء لا ترحم القراء ولا تراعي صبرهم في القراءة.
ولقد نأى الروائيون الكبار بأنفسهم عن الترهل، فعرفوا كيف يرشقون رواياتهم فتظهر للقراء مكتنزة وقد أخذ بعضها بأعطاف بعض، ولاءمت أشكالها طبيعة محتوياتها، فهذا إيتالو كالفينو يقول: «لست روائياً من أصحاب الروايات المطولة، إنني أركز على فكرة أو تجربة داخل نص توليفي قصير» (روايته «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» ترجمة حسام إبراهيم، 2013. ص 5).
ولسنا نغفل أمر «النوفيلا» بوصفها نوعاً سردياً يُمكن للكاتب أن يعالج عبره موضوعاً من الموضوعات الواقعية بطريقة مناسبة لا تطويل فيها… لكن الرواية تظل متقدمة على النوفيلا بقالبها الأجناسي العابر للحدود. وهو ما يجعل التحبيك الروائي يتم بإيقاعية أكثر تعقيداً مما هو في النوفيلا أو في غيرها من الأنواع السردية.
ولا خلاف في أن الحشو والإغراق مسلكان من مسالك إخفاء العيوب والمداراة على ما لدى الكاتب من إمكانات متواضعة من ناحيتي الخبرة والموهبة. من هنا تغدو القصة القصيرة بقالبها السردي المختزل هي الأكثر قدرة على غربلة المواهب وكشف الحقيقي منها عن الطارئ بعكس الرواية التي ضاعت جمالياتها في المغالبة المحمومة في حشو صفحاتها تغطية على العيوب والنواقص والتفافاً على الرسالة المراد توصيلها إلى القارئ. وما تأشيري على هذه الظاهرة سوى توكيد لحقيقة أن مستقبل الأجناس السردية سيكون لصالح القصة القصيرة كجنس به تعرف إمكانيات الكاتب عدة وعتاداً حتى لا مجال معها للتزويغ الكتابي والتداري الخفي فلا يضيع النوع بالكم، ولا تتحدد القيمة بالحجم.
وإذا كانت قيمة الرواية الجمالية لا تتحدد بعدد صفحاتها، فإن من الأهمية بمكان ترشيق الرواية ترشيقاً تتجلى فيه قيمتها الحقيقية. وكثير من الروايات التي لا يشك أحد في قيمتها الفنية كانت رشيقة، وما زالت رشاقتها إلى اليوم تجلب لها نجاحاً فنياً لافتاً للنظر، خُذ مثلاً رواية «صخب البحر» لفوكنر، ورواية «المسخ» لكافكا، ورواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» لمالك حداد، ورواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، ورواية «صورة الفنان في شبابه» لجيمس جويس.
المصدر: الشرق الأوسط