كان مفاجئ توقيت ثورات الربيع العربي لكن توقعها بدا حتمياً بعد أن أصبحت المجتمعات على جاهزية للخروج ضد الأنظمة عقب سلسلة طويلة من تكريس مسألة التمدن والمطالبة أكثر بالحريات، وفقا رؤية نقدية قدمها محمد قطب، حينها.
كان مفاجئ توقيت ثورات الربيع العربي لكن توقعها بدا حتمياً بعد أن أصبحت المجتمعات على جاهزية للخروج ضد الأنظمة عقب سلسلة طويلة من تكريس مسألة التمدن والمطالبة أكثر بالحريات، وفقا رؤية نقدية قدمها محمد قطب، حينها.
ورغم ما بدت به هذه الثورات من مطالب حقوقية أعلاها إسقاط الأنظمة إلاًّ أن الخمس السنوات التي مرت كشفت حجم المسافة بين مفهوم “اسقاط النظام” باعتباره حلقة ضمن بيئة دولية، وبين الرغبة الآنية في عقيلة الشعوب.
فوفق توصيف “الاستراتيجيين” فإن المجتمع الدولي هو نظام متكامل وأي خلل يحدث، بما فيه ما احدثته الثورات العربية، هو اختلال لهذا النظام، ولذلك عرفنا كيف حاول هذا المجتمع احتواء الثورات رغم مطالبها المتمدنة الظاهرة التي لا تتعارض مع مشروع دمقرطة المنطقة العربية.
دخلت اليمن كبلد في أقصى جزيرة العرب في 11 فبراير 2011م ضمن هذا التوجه الثوري لكنه أخذ طابع أقل أهمية بالنسبة للمجتمع الدولي بالمقارنة ببقية دول الربيع العربي إذ ترك المجال لدول المنطق مسؤولية التعامل مع هذا الشغب في هذا البلد اللامهم.
رفع الشباب بصوت صاخب “اسقاط النظام” نتيجة للفساد وهو المطلب الدقيق الذي كانت لأجله الثورة محقة خلاف المطالب الأخرى مثل “الحرية” التي لم تكن تحتاج اليمن إلاّ لضبطها بعد أن وصلت الحرية للشذوذ الفكري والسب للذات الالهية على الصحف الرسمية، وبنفس الوقت لم يكن أحد في السجون كما فعل بن علي في نفي المعارضين الى باريس ولندن وبن مبارك في زجهم بالسجون.
مع ذلك، ورغم مطالب ثورة فبراير إلا أن بعض دول المنطقة كانت تفرك يدها بتفكير عميق حول كيفية احتواء هذا الضجيج المجاور.
ربما، يُمكن أن يمنح لهذه الدول عذرا في التعامل مع الثورة في اليمن وتحجيمها لاعتبارات “جيوسياسية” لكي تمنع من انعكاساتها في عمق بلدانهم إلاّ أن مسارات ما بعد التسوية السياسية بما عرف بالمبادرة الخليجية شكل انكشاف دولي للتآمر على الثورة اليمنية ضمن سلسلة إجهاضها في بقية البلدان.
مرت سنة 2011م وشكلت شرارة الثورة وبنفس الوقت تم احتوائها، وحين لم يكن لدى القوى السياسية أي مجال أمام ترسانة إرادة دولية فقد قبلت بالحل في منتصف الطريق، على أن يكون الرجل الثاني هادي هو رئيس دولة ليعبر عن ربع ثورة تحولت إلى أزمة مجتمع في مضيق منحدر.
سنة ثانية أزمة، أي 2012م، وهو العام، نفسه، الذي كان الرئيس هادي رئيسا للبلد، وهو، أيضاً، عام تحضير لمسرحية مؤتمر حوار، كان من في الداخل ومن بينهم القوى السياسية الثورية يتقمصون دور المثالية والمدنية في حين كان الخارج منشغلاً بترويض البديل، حسب رؤيته.
أمريكا، وهذا ليس من باب نظرية المؤامرة، هي المسؤولة عن تنصيب البديل للأنظمة، وهو ما جعل القوى السياسية المنخرطة في الثورة اليمنية تقبل بكل المهام التي كانت تربط صالح بها ومن أبرزها الحرب على “الإرهاب”، كأهم قاسم مشترك لمن يكون في السلطة، لاسيما حين سيطر جهاديين على أبين وشبوة، خلال ذلك العام.
دخلت القوى السياسية بما فيها من نصبوا انفسهم ممثلين عن الثورة مؤتمر الحوار، أي في نهاية مارس من عام 2013م، وحين كانت الأمم المتحدة تقول أنها حريصة على نجاح الحوار حتى يكون نموذجا لنقل تجربته إلى البلدان التي تعاني من نزاع مسلح كان التحركات الاقليمية بتماهي من الغرب تجري التحضيرات لضرب أول صعود لحركة الاسلام السياسي كما حدث في مصر.
تماها المجتمع الغربي مع إرادة الدول العربية التي خططت لضرب نظام الاخوان في مصر، رغم أن الاخوان صعدوا للسلطة بالغة الديموقراطية إلا أن الغرب وعلى رأسهم أمريكا بدا أنهم يؤمنون بديموقراطية عربية لكن لا يؤمنون بنتائجها.
بعد هذا التوجه الدولي تجاه الثورات العربية عكس بكل تجلياته على ما بقي من عرق للثورة في اليمن، وهو ما بدى حزب المؤتمر مستأسدا والحوثيون أكثر تنمرا.
بعض دول المنطقة مشت على خطة تكتيكية لضرب الثورات، فيما كانت أمريكا ربما قد بدأت في خطتها الاستراتيجية على المدى الطويل بـ”استنهاض الأقليات الشيعية لضرب المشاريع السنية حتى وإن أعطى الاصلاح الدرع لجيرالد فرستاين سفير أمريكا السابق في صنعاء.
الحوثيون أغراهم هذا التوجه فكانوا يحاورون في صنعاء ويُلقمون المدافع بالقاذفات، لتكون البداية من التهجير المذهبي لمركز دار الحديث في دماج.
في السنة الرابعة من انطلاق الثورة أي في 2014م، انتهى الحوار بانكسار واضح لقوى الثورة والقوى المؤيدة لها، فانكسار الثورات العربية أثرت على مسارها، حتى بدا وكأن اليمن هي التالي.
هذا العام مثـًّل فيه تحولات دراماتيكية متسارعة، تعدًّت الفاعلين المحليين وأصبح الحوثيون وحزب صالح جزي من عصا بيد الفاعليين الدوليين لضرب مؤيدي الثورة.
وأياَ كان بداية إجهاض الثورة إلاَ أن أول ضربه عملية في مدماك الثورة والدولة هو تهجير أبناء دماج فهي أول رصاصة لبدء الصراع المحلي والدولي في اليمن، على حدٍ سواء.
هذا العام هو عام “الانتفاشة” لجماعة الحوثي برعاية دولية، فبعد اقتلاع دماج توجهوا الى عمران لقتل القشيبي بأكثر من 80 رصاصة في جسد كهل.
وقف بعدها بأسبوعين الرئيس هادي في عمران ليقول إن عمران رجعت إلى حاضنة الدولة كقصة غير لائقة بحجم رعاتها الدوليين والاقليميين.
استمر التمدد الحوثي نحو صنعاء ليس لإسقاط أشخاص بقدر ما يُعبر عن اسقاط بيئة انتجتها ثورة 11 فباير، وهو ما وجدوه فرصة مدروسة في رفع المشتقات النفطية في 30 يوليو 2014م.
لم تكن تلك الزيادات الاقتصادية عفوية بقدر ما كانت خطة مدروسة لإعطاء مبرر لدخول الحوثيين صنعاء واسقاط الحكومة، فاستمر ابتلاع الحوثيين لصنعاء في وقت كان دول الجوار لا ترى قلق والدول الغرب، أيضا، ما دام والخطة ضرب الإخوان بالحوثيين.
سقطت آخر معالم للثورة في 21 سبتمبر حين سيطر الحوثيون لجميع الوزارات، لكن الفاعلين الدوليين قرروا وقف الخطة عند هذه النقطة وهو ما بارك الجميع لاتفاق السلم والشراكة بنفس اليوم.
كانت دول الخليج تريد التوقف عند هذه النقطة، لكن صالح لا يزال لديه حسابات فهو منتظر الوقت لكي يقول لخصمه هادي لم يعد أمامك إلا ممر واحد في البحر.
شعرت المملكة بالخطر حينما فرض الحوثيون اقامة جبرية على الحكومة بما فيه هادي في فبراير2015م، بعد إعلان طهران بأن صنعاء العاصمة الرابعة في يد الثورة الخمينية، وتنصيب صواريخ على بعد 50 كيلو من أراضيها.
أقنع الحوثيون أنفسهم بأنهم حققوا شروط التجربة الخمينية بعد أن صنعوا ثورة وتم تنصيب عبدالملك كرجل ملهم ثوري، لكن هذه “الانتفاشة” اجهضتها أول ضربه للتحالف في 26 مارس 2015م.
ورغم ما مثله تدخل التحالف العربي من ضربة قاصمة ضد خصوم ثورة 11 فبراير إلا أن هذا التدخل لا يُعبر عن إرادة لاسترجاع مفاهيم الثورة من جديد كما يبالغ اليوم، فذكرى ثورة 11 فبراير أفضل ما يمكن استغلالها ما بعد هذه السنوات هو ردم الشرخ الاجتماعي في البلد الذي خلفته حروب جماعة الحوثي طيلة الأشهر الماضية.
وما تحتاجه اليوم البلد والأيام الأيام القادمة، أيضاً، ثورة جديدة من نوع تتتعامل مع واقع جديد، فملامح 11 فبراير التي وصفت بالسلمية أصبح روادها هم اليوم يحملون الاسلحة على جبهات القتال، فالثورة بما تحققه من أهداف لا بما تحمله من فلسفه بالهواء.