أطلقوا الأفلام لا الرصاص: اليمنيون يلجأون للفن للتكيف مع الحرب (ترجمة)
حرب اليمن كارثة منسية، حيث قال بيتر مورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في أغسطس: “اليمن بعد خمسة أشهر تبدو كسوريا بعد خمس سنوات”.
يمن مونيتور- يور ميدل إيست
حرب اليمن كارثة منسية، حيث قال بيتر مورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في أغسطس: “اليمن بعد خمسة أشهر تبدو كسوريا بعد خمس سنوات”.
كما أضحى معلومًا أيضًا بأن المدنيين يتحملون العبء الأكبر من العنف في اليمن؛ فوفقًا للأمم المتحدة، أسفرت الحرب اليمنية عن مقتل 2700 شخصًا وإصابة أكثر من 5000 آخرين، كما تم تدمير المدارس والمستشفيات والطرقات جرّاء الحملة الجوية بقيادة السعودية، وعمد الحوثيون والجماعات المقاتلة الأخرى لمهاجمة الأحياء، تجنيد الأطفال، وخطف مئات المدنيين في أجزاء مختلفة من البلاد، وعلى الرغم من أن اليمن لم تشهد في تاريخها صراعًا بمثل هذه الضخامة، إلا أن المدنيين اليمنيين وجدوا طرقًا للتعامل مع الفظائع التي يقاسونها.
تتمتع اليمن بتاريخ تقليدي طويل لتسوية النزاعات المجتمعية خارج نطاق الدولة، ويوجد سوابق تاريخية تشير إلى استخدام اليمنيين للأساليب الإبداعية للتعبير عن الذات كوسيلة لتفسير أو لتخفيف حدة النزاع؛ فعلى سبيل المثال، استخدم اليمنيون الروح الشعرية لحل النزاعات لأكثر من 15 قرنًا، وساعدت التقاليد الشفوية وحفظ القرآن على إبقاء الموهبة الشعرية حية وقوية في أجزاء واسعة من اليمن، حيث يوثق ستيفن كيتون في عمله الإثنوغرافي “قمم اليمن التي أتذكرها” الدور التقليدي للشعر في حل النزاعات القبلية داخل البلاد، وفي إحدى الأمثلة التي ساقها، يصف كيتون كيف استخدم الوسطاء والمتقاتلون من قبيلتي الخولاني الشعر للاجتماع وتسوية النزاع على مرج ادعى كلا الجانبين بأنه مرعى لأغنامهم.
تمخض تحوّل ما بعد الربيع العربي في اليمن عن طفوق انقسام أكثر حدة حول سيطرة الدولة على الأمن ضمن صفوف اليمنين؛ لذا أضحى تقليد المبادرات المجتمعية، بما في ذلك المبادرات الفنية، أكثر أهمية للحوار في المستقبل ولتسوية المنازعات في اليمن، فالمنظمات والأفراد في هذه البلاد يستخدمون الفن لمساعدة سكان أحيائهم وأبناء جلدتهم للتصدي لواقعهم الصعب، أو لمواجهته، أو لنسيانه، أو للهرب منه، وحاليًا، توفر المبادرات الفنية المختلفة آلية لتأقلم اليمنيين مع الحرب التي يقاسونها، وكذلك تغرس الشعور بالانتماء للمجتمع، مما يمهد الطريق للمصالحة المجتمعية بعد توقف القتال في البلاد.
الفن في مؤسسة بيسمنت الثقافية
إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة في اليمن هي مؤسسة بيسمنت الثقافية (مؤسسة القبو الثقافية)، والتي يقوم أعضاؤها بتنظيم لقاءات لتطوير الفنون والثقافة ومسؤولية المجتمع، ومؤسس هذه المنظمة، صبا الصليحي، يعتقد بأن المؤسسة أثبتت مرونتها في مواجهة الصراع الحالي، حيث يقول: “هذه الحرب المجنونة تدمر كل شيء، ولكنها لا تدمر أحلامنا، لقد تضررت أبنيتنا بالضربات الجوية، لكننا نظفنا الخراب واستمرينا بأنشطتنا، وسنتسمر بفعل ذلك في كل مرة تضربنا فيها أتون الحرب، حتى تنتهي جميع الحروب”.
تناولت مؤسسة بيسمنت الثقافية حرب اليمن في حدثين قامت برعايتهما مؤخرًا؛ ففي نوفمبر المنصرم، نظمت معرضًا للفنان نبيل قاسم بعنوان “لحظات من الخوف”، عُرضت ضمنه أكثر من 200 رسم تخطيطي “سكيتش” رسمها قاسم منذ بدء الحرب، علمًا بأن إلهام فكرة المعرض داعبت خيال قاسم عندما حرمه الانقطاع المستمر للكهرباء من ممارسة فنه، مما جعله يخاف حتى من ظله؛ لذا قرر في نهاية المطاف البدء في رسم ظله، وذلك باستخدام المواد الأساسية التي استطاع الوصول إليها في الظلام كأوراق بحجم A4، أقلام الرصاص، أقلام التحديد، وقطع الخشب، واستطاع المعرض تصوير تفسير قاسم الفريد للخوف المشترك الذي يخوضه جميع اليمنيين اليوم.
الحدث الثاني هو معرض شظايا، الذي نُظّم في ديسمبر المنصرم، حيث قام فريق بيسمنت بتدريب 13 فنانًا للتعبير عن آرائهم حول الحرب من خلال الموسيقى، الرسم، التصوير الفوتوغرافي، والكتابة، وحضر المعرض حوالي 130 شخصًا في ليلة الافتتاح للاستماع إلى الموسيقى وطريقة تصوير الفن لآثار الحرب، حيث قال عزيز مرفق، أحد منظمي الحدث، بأن شظايا والوسائل الفنية الأخرى يمكن أن “تساعدنا خلال هذه الحرب لننسى حياتنا الصعبة”.
وفي وقت لاحق، أعرب مرفق عن شكوكه في قدرة الفنون القدرة على إحلال السلام موضحًا بأن الحل السياسي وحده القادر على خلق التغيير الحقيقي، ولكن مع ذلك، تساعد مبادرات الحوار والفن التي تنظمها مؤسسة بيسمنت على تأسيس وزراعة العلاقات السلمية على المستوى الشعبي، اللازمة لترسيخ أي حل طويل الأجل للاقتتال في اليمن.
صناعة الأفلام
انتشرت صناعة الأفلام في اليمن خلال الحرب، حيث ساعدت على جذب الاهتمام الخارجي للقضية اليمنية، في ذات الوقت أرسلت رسالة أمل للشعب اليمني، وحملة إدعموا اليمن أو (#Supportyemen)، التي تأسست في عام 2011، هي إحدى الحركات الرائدة في هذه الصناعة، والتي تحاول حاليًا التركيز على القضايا المجتمعية اليمنية، بما في ذلك الحرب وصمود المجتمع، من خلال إنتاج الأفلام القصيرة، حيث حاول أعضاء الحملة صناعة فن يصوّر التفاف اليمنيين حول بعضهم البعض للوصول إلى السعادة رغم الصعوبات التي يواجهونها.
يعتقد عبد الرحمن حسين، أحد صناع الأفلام في حملة إدعموا اليمن، بأن صناعة الأفلام تبدو اليوم مهمة أكثر من أي وقت مضى لأنها تخلق فرصًا ليداوي اليمنيون جراحهم، حيث يقول: “رغم أنه لطالما كان حمل الكاميرا أكثر خطورة من حمل السلاح، ولكن لا يزال من الممكن أن نستمر بالتصوير”.
أحد الأفلام القصيرة التي صورها حسين هو فيلم “لحن غربتنا”، الذي يعرض ثقافة الصبر والتحمل التي نشرها سكان العاصمة صنعاء إلى العالم من ختلف المشارب منذ القرن الرابع ما قبل الميلاد، ويذكّر الفيلم المواطنين بألّا ينسوا شجاعتهم، ضمن حيهم أو مدينتهم أو بلادهم، في خضم هذه الأوقات العصيبة التي يقاسونها، ويحفزهم للعمل سويًا ليكونوا عناصر للتغيير السلمي.
“لون الظلم”، هو فيلم قصير آخر صنعه حسين، واعتمد لانتاجه على اللونين الأبيض والأسود فقط لتمثيل الموت والدمار الذي يتحمله اليمنيون في كل ليلة ويوم، وبغية صناعة أفلامه، يعتمد حسين على الرجال والنساء اليمنيين الشباب المنحدرين من المجتمع، والذين تحدوا القصف اليومي، ليصورهم ضمن أعماله الفنية.
استطاعت الجهات المانحة الدولية أيضًا لمس إمكانية وصول الأفلام إلى اليمن التي تمزقها الصراعات؛ فخلال فصل الصيف، تساعدت حملة إدعموا اليمن مع المجلس الثقافي البريطاني، وهي مؤسسة خيرية دولية، لتنظيم ورشة عمل “قُمرَة”، حيث تم تدريب 12 شخصًا من صانعي الأفلام الطموحين لتصوير أفلام حروب العصابات خلال ورشة عمل مكثفة لمدة أسبوعين، ووجه المدربون المشاركين لكيفية ترجمة العواطف من خلال الصور، والأفلام التي تم إنتاجها خلال ورشة العمل تغلغت ضمن طبيعة الحرب المتدفقة؛ فحتى خلال الحرب، أثبت فريق المخرجين الشباب لليمنيين الآخرين بأن الإبداع والتعبير الفني هو أمر ممكن ومفيد للمساعدة في بناء الجسور وجسر الهوات وسط الإطراد المستمر للانقسامات في البلاد.
من تحت الأنقاض
سارة اسحاق، المخرجة الاسكتلندية/ اليمنية، كانت إحدى المدربين في ورشة قُمرَة، وأثناء تصوير الخراب الذي أعقب غارة جوية على البلدة القديمة في صنعاء، شاهدت إسحاق الأطفال الذين يلعبون بين أنقاض منازلهم، حيث كانوا يجمعون الأجزاء القديمة من الأثاث والطوب لإعادة بناء نسخ مصغرة منها.
“المتعة التي كانت بادية في وجوههم وهم يغمورن أنفسهم في النشاط الإبداعي على الخلفية المتناقضة لتهدم منازلهم كسرت قلبي، ولكن بعد ذلك جعلتني أدرك قوة الفن والإبداع في التأقلم والتعامل مع المأساة والصدمة”، قالت اسحق، التي قررت فيما بعد أخذ الأطفال إلى بيئة آمنة واستخدام الفن للمساعدة في علاج الإجهاد التي تعرضوا له.
أسفر قرار إسحاق عن تأسيس ورشة عمل “من تحت الأنقاض”، التي ضمت 9 أطفال، لبدء عملية علاجهم النفسي من خلال التعبير الفني، وكان الهدف من خلف ورشة العمل أن يتم توفير بضعة أيام من الهروب من الواقع، والمرح، والإغاثة العاطفية لبضعة أطفال يمنيين، في ذات الوقت الذي يتم فيه لفت الانتباه إلى الكيفية التي يمكن للفن من خلالها المساعد في إدارة حالات ما بعد الصدمة (التروما) التي يتعرض لها الأطفال في مناطق الحرب.
لاحظت إسحاق بأن الأطفال كانوا في البداية متحفظين في رسوماتهم، ولكنهم، تدريجيًا، خرجوا من قوقعتهم وأصبحت أعمالهم الفنية نابضة بالحياة، “كانت الأجواء مليئة بالضحك والفرح، ورغم أن الطائرات كانت تحوّم في سماء المنطقة، لم يبدو بأن أحدًا كان يهتم”، أشارت إسحاق.
يقدم الفن مخرجًا من الحياة العصيبة، ولكنه قادر أيضًا على أن يوفر نداءًا للسلام، حيث يقول مراد سبيع، الذي يُطلق عليه لقب “بانكسي اليمن”: “أعتقد بأن لدى الفن القدرة على إرسال رسائل قوية ومؤثرة خصوصًا في هذه الأوقات”، ومن الجدير بالذكر بأن لوحات سبيع الفنية تُعرض في صنعاء العاصمة، وفي المدن اليمنية الأخرى بما في ذلك عدن، تعز، والحديدة.
أطلقت سبيع حملته الفنية الخامسة “أطلال” في مايو 2015، بعد شهرين من بداية الحرب في اليمن، حيث تضمنت الحملة قيامه بالرسم على أنقاض المناطق التي قُتل ضمنها المدنيون إحياءًا لذكرى الضحايا وتسليطًا للضوء على النتائج المترتبة على استمرار الحرب، كما دعا غيره من الفنانين للمشاركة في عملية جماعية وتعاونية في هذا المجال، وردًا على سؤال حول تأثير الحملة، قال: “اليمنيون يدعمون ما نقوم به في الشوارع، والكثير من الأشخاص يأتون إلينا بينما نقوم بالرسم، ويعرضون تقديم أي نوع من المساعدة القادرين على تقديمها”، وأخيرًا تعهد سبيع بالاستمرار برسم اللوحات في الشوارع طالما استمرت هذه الحرب، حيث قال: “بهذه الطريقة أقاتل في هذه الحرب”.
الدعوة لإنزال السلاح
توضح الأمثلة المذكورة أعلاه كيف يساعد الفن الأشخاص ليشعروا بعبثية الحرب، ولكن في الجهة المقابلة، يمكن استخدام الفن والأدب أيضًا لحشد الأشخاص للعسكرة، حيث يحاول الجهاديون استخدام الشعر كوسيلة لدفع الأشخاص للمعارضة والتشدد بطرق بلاغية جزلة، وهذا الموضوع تناولته إليزابيث كيندال في كتابها “تنظيم القاعدة في اليمن والشعر كسلاح في الجهاد”، حيث جاء فيه: “قوة الشعر بتحريك المستمعين والقراء العرب عاطفيًا، باختراق قلوبهم، وخلق هالة من التقاليد والأصالة الشرعية حول الأيديولوجيات التي يتناولها، تجعله سلاحًا مثاليًا للدعوة الجهادية المتشددة”.
ومع ذلك، تم استخدام الشعر الشفهي في اليمن لعدة قرون بين المواطنين لحل النزاعات وإدارة الصراعات، وهذا الجانب من الثقافة اليمنية يوفر فرصة لتعزيز طرق بديلة لحل المنازعات بين المواطنين بدلًا من إطراد هوامش التطرف في البلاد.
الحرب ليست ساحة للمتطرفين وتجار الحروب فقط، وإنما أداة تحفز الفنانين أيضًا، حيث توضح المبادرات الفنية المذكورة أعلاه بأن التعاون المشترك والابتكار ليس أمرًا ممكنًا في زمن الحرب فحسب، بل وناجح أيضًا، وسيواصل اليمنيون جهودهم لإيجاد سبل للوقوف في وجه الحرب ورفضها، أملًا بأن تخرس أصوات المدافع في القريب العاجل.
المصدر الرئيس:
Shoot film, not bullets: Yemenis turn to art to cope with conflict
ترجمة: نون بوست