أردت أن أزور “مأرب”، حين اقرأ كلمات أحد أبنائها، فأقوم برحلة من خلال أحرفه، في أسواقها وجبالها وصحرائها، وأراها بعين عاشقها الذي يرتبط بالمكان ارتباطا كبيرا، ويجمعه بصحرائها الحنين الأزلي، كلما تاق لأن يخلوا إلى روحه ثانية، بعد أيام من العيش في خضم حياة المدينة السريعة.
أردت أن أزور “مأرب”، حين اقرأ كلمات أحد أبنائها، فأقوم برحلة من خلال أحرفه، في أسواقها وجبالها وصحرائها، وأراها بعين عاشقها الذي يرتبط بالمكان ارتباطا كبيرا، ويجمعه بصحرائها الحنين الأزلي، كلما تاق لأن يخلوا إلى روحه ثانية، بعد أيام من العيش في خضم حياة المدينة السريعة.
لم يحدث ذلك، فقررت أن ابدأ رحلتي، بالبحث عنها في الشبكة العنكبوتية، كانت المعلومات حولها شحيحة جدا، وكأنها المدينة المنسية.
بحثت عن بعض المعلومات عنها، فوجدت بأنها مدينة بسيطة تعتمد على الزراعة بشكل أساسي، وحين بحثت حول الزراعة فيها، كانت نتائج البحث تتحدث عن” زراعة الموت”، ولم تتحدث عن زراعة الأرض الخصبة فيها، فجميعها تشير إلى زراعة الحوثيين لمئات الألغام في تلك المدينة، التي هي كالكنز المخبوء.
ذاك كان بعض القليل الذي وجدته عن “مأرب”، تلك المدينة التي خدمت الاقتصاد الوطني، لوجود ثروة نفطية وغازية ضخمة فيها، فهي شريان حقيقي لكل اليمن، خاصة مع وجود محطة مأرب الغازية فيها، لكن تم حرمانها من أبسط الحقوق، وعلاوة على ذلك قدم إعلام نظام “علي عبدالله صالح” أبناءها لليمنيين، بأنهم مخربين وحاقدين على الوطن، فكانت وسائل إعلامه ترصد كل حالات التخريب لأبراج الكهرباء وأنابيب النفط والغاز في المحافظة، وتنسبها إلى أهالي “مأرب” المحافظة المسالمة، لتشويه الإنسان فيها، والإساءة لهم، بينما كان هناك أيادٍ تابعة له، تقوم بالتخريب للثأر من كل اليمن، ومن القبائل الأعرق في اليمن، والأكثر تأثيراً، والتي لم تكن على وفاق مع نظام صالح، وإلا لما تم تهميش تلك المدينة بذلك الشكل المخجل.
فطوال فترة عدم الاستقرار في اليمن، تم محاربة الإنسان اليمني الذي ثار على الظلم، وأراد أن يعيش بحرية وكرامة، من قبل النظام السابق بشتى الوسائل، فعلى سبيل المثال، بلغت خسائر الخزينة العامة للدولة نتيجة الاعتداءات المتكررة على خطوط نقل النفط والغاز وشبكات الكهرباء منذ العام ٢٠١٢م وحتى ٢٠١٤م، ما يقارب ترليون وأربعمائة واثنان وثمانون مليار ريال، بنسبة ٩٤٪ من إجمالي العجز الصافي لتلك السنوات، وكان كل ذلك التخريب- كما أسلفنا- ينسب لأهل “مأرب”، لكن الحقائق تكشفت، على الرغم من الكم الهائل للرسائل الإعلامية الموّجهة من قبل وسائلهم، للإساءة إلى أهلنا في “مأرب”، ولكن الأيام جعلتنا نتعرف على مشروع أولئك الذين يحاربون كل اليمن، وكشفت عن الوجه الآخر الحقيقي لأهلنا في “مأرب” الذين حاربوا لأجل اليمن وكرامتهم، وأرضهم الغنية، والتي حرموا من ثرواتها، في ظل حكومة تعمدت تهميشهم واستثناءهم، إلا أنهم كانوا من أكثر اليمنيين، الذين وقفوا من أجل المشروع الوطني منذ ثورة فبراير/ شباط ٢٠١١م، وحتى اللحظة.
تلك المدينة التي تآلفت روحي معها منذ زمن طويل، وأشعر بأني أعرف كل أزقتها، وقبل أن تطأها قدمي، ها هي اليوم تستيقظ بعزة وإباء، كما استيقظ معبد بلقيس الذي بقي مدفونا في صحراء مأرب سنوات عدة، حتى تم اكتشافه، وكان قد بناه أجدادنا في تلك المدينة منذ قرون خلت، تمجيدا لإله “المقه” إله القمر، وهو يقف بشموخ، منذ ذلك الحين، على الرغم من الإهمال، الذي عانى منه طوال السنوات الماضية، ويذكرنا اليوم تواجد أبناء “مأرب”- المدينة المهمشة- في الصفوف الأولى للدفاع عن القضية الوطنية، التي تتنازعها الأطماع، بظهور ذلك المعبد الذي كان مطموراً.
في تلك المدينة التي كنا لا نعرف عنها غير اسمها، ومعبد بلقيس، ونخلط في بعض المرات بينها وبين مدينة” ذمار”، ها نحن اليوم نعرف عنها الكثير، بعد أن حدثتنا عن الانتصارات، ورأيناها قبلا مدينة مسالمة، في وجوه أبنائها، وصفحات أرواحهم.
في الأشهر الأخيرة سمعنا عن الجبل العظيم” هيلان”، وسمعنا عن” صرواح” و” الجدعان”، و” جبل مراد” و” العبدية”، إذ خلد رجالات” مأرب” اسم مدينتهم، بعد أن سطروا البطولات في معارك شرسة، وتحديدا في جبل” هيلان”، وسيكون رمزا للانتصار، الذي سنكون على موعد محقق معه قريب، لتنتصر بالحب للإنسان الذي تم تهميشه.
استطعت أن أرى عن طريق عيني روحي، المدينة التي تربطني فيها علاقة أزلية، لأن الروح تكون على لقاء مع أصلها، هناك في صحراء مأرب، والتي تمتزج فيها البداوة، مع العراقة، والحضارة.
تلك المدينة جمعت بين نقيضين، عزم الرجال وقلوبهم الرحيمة، والملامح التي صنعتها الصحراء بقسوتها، وأرواحهم النقية.
فعرفنا عن أبناء تلك المدينة الطيبة وجمال الروح، فالإنسان فيها ابن الطبيعة والبساطة، وغير رجالاتها نظرتنا للقبيلة التي تم الترويج لها في عهد نظام صالح بأنها مجاميع من المرتزقة، تسيرها أيدي النظام، فوجدنا بأن القبيلة هي الكرامة، والحرية، والوعي، والتعصب للوطن لا غير.
في مأرب تستمتع بجبالها، وصحرائها، وشمس الله فيها، وتكون على موعد مع رحلة إلى قرون مضت، إذ تزور معبد بلقيس، وسد مأرب العظيم، لتتذكر عظمة الإنسان اليمني القديم، الذي صنع المعجزات وما زال.
وفي المساءات الباردة يتحلق الرجال حول بعضهم، فتتضوع رائحة الألفة من أرواحهم، لتخلق للمكان روحا متجددة، وتجتمع صبايا ونساء البدو، في المدينة المحرومة من أبسط الخدمات فيها، يتسامرن تحت ضوء القمر، ويشربن القهوة معا، بينما يغالب النعاس أطفالهن، فينامون في أحضانهن، وأحاديثهن وهمهماتهن كالموسيقى التي تترافق وصوت الناي، في فضاء الصحراء الممتد، وتنقل أرواحنا معهم غيمة وغيمة، في سماوات” مأرب” التي يجب أن تكون جزءا من التكوين الثقافي، والانتماء الروحي للأجيال القادمة، وقبلة سياحية لكل اليمنيين، الذين يجهلون الكثير من أسرار تلك المدينة القديمة.
صباحات تلك المدينة التي تتقارب مبانيها من بعضها بمحبة، وفي عمق صحرائها، تشكلت ذات يوم براعم، وها هي قد تفتحت ونضجت، ونقلت رسائل السلام والمحبة التي جاءتنا بها تلك المدينة المنبعثة ثانية، وكشف رجالاتها عن وجهها الآخر، وظهرت غيرة الرجل فيها التي تعود جذوره للقبيلة، لتحركه قبيلته الأكبر “اليمن”، فوقف بثبات لأجلها فقط.