الفيلم الهوليوودي الجديد “كثيب” يمحو العرب من مستقبل البشرية!
يمن مونيتور/ القدس العربي
منذ نشر الكاتب الأمريكي فرانك هيربيرت رواية الخيال العلمي «كثيب» عام 1956، تصارعت استوديوهات هوليوود على شراء حقوقها لكي تطرحها سينمائياً، وذلك بفضل المدح النقدي الذي نالته الرواية آنذاك، وتحولها إلى أكثر روايات الخيال العلمي مبيعاً في العالم. لكن اقتباسه سينمائيا لم يكن سهلاً، لهذا تفادى عدد من أعظم المخرجين مثل ديفيد لين وريدلي سكوت الخوض في صنعه، بينما فشل اليخاندرو خوردوفسي في محاولته بعد أن استثمر ما يقارب 10 ملايين دولار في التحضير لانتاجه.
أحداث كثيب
أول محاولة ناجحة حققها ديفيد لينتش عام 1984 عندما أخرج النسخة السينمائية الأولى، لكن الفيلم فشل نقدياً وتجارياً، فحمل لينتش ذلك الفشل للأستوديو المنتج «يونيفرسال» واتهم مسؤوليه بالتدخل في قراراته الإبداعية. لهذا كان هناك ترقب كبير لنسخة المخرج الكندي دينيس فيلينوف، التي أطلقتها شركة «وررنر بروز» الأسبوع الماضي في دور العرض العالمية.
تدور أحداث «كثيب» في المستقبل البعيد في إمبراطورية مكونة من كواكب تحكمها أسر نبيلة، يتزعمها الإمبراطور كورينو. أهم كوكب فيها هو أراكيس، المصدر الوحيد للمادة الأكثر قيمة في الكون، وهي ميلانش أو التوابل، التي تمنح مستهلكيها قدرات ذهنية خارقة تمكّن من السفر بين الكواكب. لكن أراكيس غير صالح للعيش بسبب بيئته الصحرواية القاسية وحرارته المرتفعة وتديره أسرة الهاركونن، التي تضطهد السكان الأصليين، وهم الفريمين، وتحكمهم بيد حديدية. وعندما يمنح الإمبراطور إدارة أراكيس لبيت أتريديس، يهاجمهم الهاركونن ويسحقونهم.
لكن ولي عهد الأتريديس، بول أتريدس، وأمه، اللذين يتمتعان بقدرات خارقة يهربان إلى سكان الكوكب الأصليين، الفريمين. الذين ينبهرون بقدراته الخارقة ويعتبرونه «المهدي المنتظر» الذي كانوا ينتظرونه ليقودهم في نضالهم لتحقيق حريتهم.
بداية أراد هربرت تسليط الضوء على تدمير الإنسان للبيئة وجفاف الأرض، بعد أن شاهد توسع الصحراء في ولاية أوريغون الأمريكية عندما كان يقوم بتقرير صحافي عن الجفاف عام 1957. لكن بعد قراءة مئات الكتب خلال بحثه، أضاف لها أبعاداً أخرى كالاستعمار والفساد السياسي واستغلال الدين للسيطرة على الناس.
وابتكر عالماً مستقبلياً في الفضاء يعكس صراعات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في الستينيات على الأرض: قوى عظمى من البيض تتصارع على بلاد الملونين وتستعمرها وتضطهد شعوبها وتدمّر بيئتها طمعًا في مواردها الطبيعية, هيربيرت استعار مجمتع الفريمين من الحضارة العربية والإسلامية. فهم يعيشون حياة البادية تأقلماً مع البيئة الصحراوية القاسية لكوكب أراكيس، ويتبعون مذهب الزنسوني، وهو مزيج من مذهب الزن الياباني والسنة الإسلامي، ويؤمنون بأن ولياً سيظهر ليقودهم في الجهاد ضد مستعمريهم، الهاركونن. بينما يجسد بيت الهاركونن روسيا الشيوعية، ويتزعمهم البارون فلاديمير. وقد استلهم هيربيرت تلك الحبكة من مقاومة مسلمي القوقاز للاحتلال الروسي عبر التاريخ.
اما بيت اتراديس، فهو كناية عن المستعمر الغربي الليبرالي الخير، متمثلًا في الأمريكيين، المعنيين باستئصال توابل أراميس وليس اضطهاد سكانه، بل ويقود ولي عهدهم بول، الفريمين في حرب مقدسة ليحررهم من الهاركونن، ما يستحضر حرب فيتنام، التي شنتها الولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي تحت شعار تحرير شعبها من الشيوعية السوفيتية أو حرب العراق بداية الألفية، التي خاضتها بحجة تحقيق الحرية والديمقراطية للشعب العراقي. لكن كلا الحربين أسفرتا عن دمار شامل ومقتل ما يقارب ثلاثة ملايين فيتنامي ومليون عراقي.
فكرة البطل الأبيض المنقذ لشعوب الملونين المضطهدين سائدة في الأدب الغربي والسينما هناك. ويبدو أن هيربيرت كان متأثراً بسيرة الضابط الإنكليزي توماس إدوارد لورنس، الذي ذاع صيته في العالم قبل ثلاثة أعوام من نشر رواية كثيب، بعد عرض فيلم سيرةَ حياته «لورنس العرب» في دور السينما العالمية عام 1962 وفوز الفيلم بسبع جوائز أوسكار من ضمنها أفضل فيلم. كما أنه يعتبر أحد أعظم وأكثر الأفلام تأثيراً في تاريخ السينما.
لورنس ينطلق إلى الشرق الأوسط عام ألف وتسعمائة وستة عشر، ويسلك حياة العرب في البادية ويصبح واحدا منهم ثم يدربهم على القتال ويقودهم في معارك ضارية ضد الأتراك ليحرر أراضيهم ويحقق لهم دولة عربية مستقلة موحدة.
الفيلم يقدم لورنس كبطل حقق الحرية للعرب، لكنه في الواقع، كان عميلاً للجيش البريطاني استغل العرب لهزيمة الأتراك لكي يمهد الطريق للاستعمار الأوروبي في الشرق الأوسط.
قبائل الفريمين
في مذكراته الشخصية التي نشرها في كتاب، أعمدة الحكمة السبعة، عام 1926. يقول لورنس عن العرب إنهم متدينون، ويتسمون بضيق الأفق ومحدودية الفكر، ويمكن إقناعهم بأي فكرة لأنهم لا يثقون بعقولهم ويؤمنون بدون فهم أو تساؤل، ما يجعلهم خداماً مطيعين». تلك الصفات منحها هيربيرت لقبائل الفريمين، حيث صورهم كمتدينين يتقيدون بتقاليدهم وعقائدهم ويؤمنون بخرافات غير منطقية ويطيعون بلا تساؤل.
ويستغل بول سذاجتهم وإيمانهم بأنه «المهدي المنتظر» فيصبح زعيمهم، ويدربهم على القتال ليقودهم في جهادهم ضد استعمار الهاركونن ويستعيد السلطة لنفسه. لكن ألم يذعن الألمان في ثلاثينيات القرن الماضي لنمساوي يدعى أدولف هتلر، وآمنوا بأفكاره المتطرفة وانقادوا وراءه في حرب دمرت بلادهم؟ وألم يصدق الأمريكيون كذبة جورج بوش عن وجود أسلحة كيماوية في العراق ودعموا حربه عليها؟ فهذه ليست سذاجة وإنما تصرف فطري يسلكه كل إنسان في حالة اليأس والخوف، التي يستغلها الزعماء في بسط سلطتهم على شعوبهم، بغض النظر عن ثقافة تلك الشعوب.
مثلهم مثل العرب في بداية القرن العشرين، كان الألمان بعد الحرب العالمية الأولى يعيشون تحت قبضة الحلفاء في واقع اقتصادي مزرٍ. وعندما ظهر هتلر ووعدهم بمستقبل مبهر، اعتبروه المخلص وجعلوه ديكتاتورا عليهم. أما الأمريكيون فكانوا يعيشون في حالة ذعر بداية الألفية الثانية إثر ضربات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وبالتالي آمنوا أن حكومة بوش تعمل لحمايتهم من ضربة كيماوية وشيكة.
هذا الموضوع سبره المفكر الأمريكي – الفلسطيني، مؤسس دراسات ما بعد الاستعمارية، إدوارد سعيد، في كتابه الشهير «استشراق» حيث خلص إلى أن الغربيين اعتبروا الشرقيين غير عقلانيين، انفعاليين وضعفاء ومخنثين، بينما الشخصية الغربية عقلانيةً وقويةً وفعالةً ورجولية، ويعزو ذلك إلى حاجة الغربيين لخلق فجوة بين الشرق والغرب لا يمكن تخطيها.
فكان المستشرق الحديث في نظر نفسه بطلاً ينقذ الشرق من مهاوي الغموض، والعزلة والغرابة التي حددها بنفسه وحكم عليها بالصحة. كما أنهم قدموا العالم العربي والإسلامي كرسوم كاريكاتورية اختزلت تفاصيل ذلك العالم إلى صورة النفط الخام من أجل جعله عرضة للعدوان العسكري.
هيربيرت يلوم الرجل الأبيض على دمار البيئة ويتعاطف مع الفريمين، لكن من منظور استشراقي. أما هوليوود فحذفت العرب تماماً من طرحها السينمائي لدون. ففي النسخة السينمائية الأولى عام 1984، اختفت السمات العربية من شخصيات الفريمين. فكانوا كلهم من البيض لا يختلفون مظهراً أو سلوكاً عن شخصيات مجتمعات الكواكب الأخرى ويؤدي أدوارهم ممثلون بيض. كما اختفى الطابع الصوفي والجهادي لثورتهم على الهاركانون، ولم يصفوا بول بالمهدي المنتظر بل اكتفوا بـ:»بول المؤدِب».
أفلام الخيال
لكن ذلك لم يكن سبب فشله النقدي والتجاري. فالجماهير الغربية تعودوا في تلك الفترة على كون شخصيات المستقبل في أفلام الخيال العلمي عادة من البيض. أما السبب الحقيقي لفشل فيلم لينش فيعود لرداءة إنتاجه وسرده المربك وأداءاته الضعيفة ومؤثراته البصرية السخيفة.
وعندما أمسك فيلونوف زمام صنع النسخة الجديدة وكُلف بكتابة نصها، تعززت توقعات إعادة الحضور العربي والإسلامي للرواية. وذلك لأن الحضارة العربية مألوفة له، فقد صنع فيلماً تناول فيه واقع الشرق الأوسط وهو الفيلم المرشح للأوسكار «انسينديس» الذي يحكي قصة كندية – عربية الأصل تسافر مع أخيها التوأم إلى بلد أمهما في الشرق الأوسط بعد وفاتها، للبحث عن شقيقهما، الذي كانا يجهلان وجوده، ووالدهما، الذي اعتقدا أنه مات، فيكشفان حقائق مروعة عن حياة أمهما خلال الحرب الأهلية هناك.
لا شك أن طرح فيلينوف كان أفضل من طرح لينش. فالفيرمين يحملون سمات عربية وعقائد صوفية ويعلنون الجهاد على الاستعمار بقيادة المهدي أي بول، لكن لم يشارك أي ممثل عربي في تجسيد شخصياتهم. كما قام الاستوديو المنتج، و»ورنر بروز» بتغيير حملة الفيرمين من جهاد إلى حرب صليبية في تريلر الترويج للفيلم.
أراد هيربيرت من خلال «كثيب» أن يغير فكرة مستقبل أبيض للبشرية وتخيل مستقبلا مكوناً من مزيج من كل الحضارات والديانات والشعوب المعاصرة.
لكن بدلاً من أن تستغل هوليوود الرواية لتعديل تنميطها للعرب والمسلمين، محتهم من مستقبل البشرية. ومن لم يكن موجوداً في المستقبل فذلك يعني أنه ليس مهماً في الحاضر.