تحول من المسرح إلى الصحافة.. الفنان اليمني فكري قاسم: مسرح الشارع تجربة شيقة ومرهقة
(متابعة)
لعل هذا الحوار مع الفنان اليمني فكري قاسم هو الكوّة التي سيتضح لنا من خلالها الكثير من تفاصيل المسرح اليمني وشؤون المسرحيين في اليمن خلال فترة التسعينات ومطلع الألفية الثالثة، واستضافتنا لفكري قاسم في هذه المساحة ليس لكونه اسما مهما في عالم الصحافة ذاع صيته كثيرا في الأوساط اليمنية، ولا لكونه كاتب عمود ساخر بارع، ولكن لكونه فنانا مسرحيا اضطرته متطلبات الحياة ذات يوم إلى الابتعاد عن المسرح وممارسة الصحافة، وهو ربما ما لا يعرفه الكثيرون عنه، لكن يظل أثره باقيا وشغفه بالمسرح لم يزل قائما يعيش معه كل لحظة.. فإلى الحوار الذي نشرته “ميدل ايست اونلاين”:
*لتكن البداية بتعريف القراء بكم، وسرد أهم النقاط البارزة في مسيرتكم الفنية والأدبية والثقافية؟
– حارة فيها سينما ومدرسة نموذجية داخلها فصول للتربية الفنية ومكتبة ومسرح وانت طالب في المراحل الدراسية الأولى من عمرك فهذي بطبيعة الحال اشياء كلها تتركك تحب الأدب والفنون تلقائيا وتلك الأشياء توفرت في حارتنا بالجحملية في مدينة تعز. ولكن ارتباطي المباشر بالمسرح بدأ تحديدا من نشاطي مع فرقة المسرح الجامعي سنة 1996 في جامعة صنعاء كممثل هاوٍ رفقة كوكبة من أفضل شبان المسرح الذين اصبحوا فيما بعد نجوم الدراما اليمنية.
وتطور اهتمامي بالمسرح فيما بعد التخرج من الجامعة ليصبح عشق كبير شغف لبي البحث عنه وفي سبيله أسست فرقة ناس المسرحية في سنة 2000 بتعز وشكلتها مع طلبة مدرسة سام وقدمت عبرها عدداً من العروض المسرحية في السجن المركزي بتعز وفي مستشفى الجذام وواجهتني بعض العراقيل آنذاك إذ قام مدير المدرسة التي شكلت فرقتي المسرحية منهم بالتذمر من نشاطي وأبلغ أولياء الأمور بأني أمسخ عيالهم وفركش لي فرقتي تلك واتجهت من بعد ذلك للعمل باسم فرقة ناس مع ممثلين كبار قدمت معهم “أيام تعز المسرحية” سنة 2001 من خلال عرضين لمسرحيتين منفصلتين الأولى مسرحية “بيبرس حاكما” من تأليفي وإخراج الزميل سامي الحداد وبطولة عدد من طلاب المدارس، والمسرحية الثانية “إنسان ضيعناه” من تأليفي أيضا واخراج الأستاذ عبدالحكيم الحاتمي وبطولة الفنان الراحل عبدالكريم مهدي وآخرون. واستمرت تلك العروض لمدة 10 أيام سميناها أيام تعز المسرحية.
من بعدها كتبت مسرحية “محاكمة الجدي” سنة 2002 وهي نص مسرحي يتناول ظاهرة تعاطي القات وقدمتها فرقة مسرح الكشافة بتعز بقيادة المخرج الأستاذ أحمد جبارة وكان بطلها الفنان بدر الحاتمي. وفي سنة 2003 فزت بجائزة العفيف الثقافية عن النص المسرحي، بينما كنت شغوفا في تلك الفترة من حياتي بكل ما له علاقة بالمسرح وبجمهور الفرجة.
وكنت أمثل واكتب للمسرح وأنظم الاحتفالات الفنية واتنقل بفرقتي المسرحية في غير مكان دون كلل أو ملل أو تذمر من بؤس ظروف الوقوف فوق خشبة المسرح بالتزامن أيضا مع طبيعة عملي كمحرر صحفي مهتم جدا بأخبار كل فناني المسرح اليمني بشكل خاص وبالحركة الفنية بشكل عام ومثابر في تغطية انشطتهم الشحيحة في صفحة فنون بصحيفة الجمهورية وكذا في صحيفة الثقافية وكان يوم الـ27 من مارس في كل عام هو يومي الوطني الذي أستعد له جيداً بأفكار جديدة للتذكير بفن المسرح اليمني في اليوم العالمي للمسرح.
*بصفتك أحد رواد مسرح الشارع في اليمن، حدثنا عن تجربتك في مسرح الشارع؟ ولماذا توقفت؟
– اسمح لي أولا أن تكون اجابتي على سؤالك هذا مهداه مني للفنان المسرحي علي الجنفدي الذي سألني نفس هذا السؤال في رمضان الفائت بينما كنت منشغلا ولم اتمكن من الرد عليه وهي فرصة الان ليكون الجواب لكم الاثنين: كنت في تلك الأيام من سنة 2000 مغرماً بالمسرح وأبحث عن أي فكرة جديدة لنشاط مسرحي غير مألوف يمكنه أن يكون قريبا من الجمهور الذي لا يحضر العروض المسرحية بسبب موسميتها وندرتها واقتصارها على المناسبات فقط ما أدى إلى عزوفهم عن الحضور إلى خشبة المسرح واهتديت إلى فكرة مسرح الشارع بعد أن قرأت عبارة شديدة التأثير للمخرجة المسرحية البريطانية جون ليتلود قالت فيها “حيث يلتقي الناس بالناس ينشأ المسرح” وما من مكان يلتقي فيه الناس أكثر من الشارع. اختمرت الفكرة برأسي وعرضتها على زميلي القدير الفنان الراحل عبدالكريم مهدي وتحمس لها وشجعها وشكلنا فريق مسرحي من أربعة أشخاص وهم: عبدالكريم وأنا واثنين أصحاب كان ذلك هو ظهورهما الأول في المسرح وهما عمر ذيبان وعبدالكريم الشيعاني الله يرحمهم الإثنين أيضا. وقدمنا معا تجربة مسرح الشارع لأول مرة في اليمن وذلك باستخدام دكة أحد المطاعم الشعبية في سوق الصميل بمدينة تعز كخشبة مسرح مفتوح في الهواء الطلق وتعاون معنا كل المحيطين بالمطعم لتوفير أجواء مناسبة للفرجة في شارع فرعي لا ينقطع عنه المارة واستخدمنا كراسي المطعم مع عدد من الكراسي استعرناها من مدرسة الحمزة وعدد آخر استعرناها من فرع اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بفرع تعز وقدمنا في مساء ذلك اليوم من العام 2000م عرضا مسرحيا ارتجاليا استمر لمدة ساعة وربع من الضحك المتواصل ومن الفرجة الممتعة لجمهور كبير بعضهم كانوا يتفرجون علينا من سقوف البيوت المحيطة بالمطعم والبعض الآخر من المارة الذين توقفوا في الشارع لمشاهدتنا وكانت تجربة شيقة ومرهقة في نفس الوقت لأننا قدمناها من دون أي صوتيات ولم نكرر عروض مسرح الشارع ثانية لأننا جلسنا أكثر من اسبوع تقريبا ونحن مشحبين وحبالنا الصوتية ممزقة لكثرة ما كنا نتحاور أثناء العرض بأصوات مرتفعة، والسبب الثاني لعدم تكرار التجربة هو أننا كنا نعمل بجهود ذاتية ولا يوجد دعم أو اهتمام بتطوير التجربة لمواصلتها دون إرهاق نفسي وذهني ومادي.
*من خلال تجربتكم في الكتابة ماذا يحتاج الكاتب ليؤلف للمسرح في اليمن؟
– لأن النشاط المسرحي في اليمن موسمي في الغالب فإن الكاتب للمسرح يحتاج أولا إلى فكرة جيدة رأس مالها من الممثلين ومن الديكورات ومن السينوغرافيا قليل، من أجل يقدر ينفذها وينقلها من جمود الحوارات المكتوبة في النص إلى واقع الحركة والفعل الحي فوق خشبة المسرح ولا داعي مطلقا لكتابة نصوص مسرحية مزدحمة بالشخصيات وبالمناظر وبالمشاهد الكثيرة والمتنوعة مراعاة لظروف الإنتاج. وبوضوح أكثر عليك وانت تكتب للمسرح في اليمن أن تفكر بإمكانات المسرح الفقير.
*لماذا ابتعدت عن الكتابة للمسرح رغم حبك له؟
– في بلاد تخلت عن دورها في التنمية الثقافية بما يكفي لإن يضيق بي الحال وانا شاب مفتون بالمسرح وأسير في أول الطريق الى المستقبل واقتنعت أن مستقبل الصحفي أفضل من مستقبل الفنان المسرحي وغرقت في الصحافة قبل أن انتقل للكتابة الساخرة بروح الفنان المسرحي ويمكنك أن تلاحظ ذلك في غالبية المقالات التي اكتبها حيث ستجد فيها شيء من روح الحوار وآخر من روح الأفكار المسرحية أو هذا ما اقنع نفسي به كمبرر لعزوفي عن عشقي الكبير.
*ماهي أسباب تعثر المسرح في اليمن؟
– أولا تخلي الدولة عن التزاماتها الثقافية تجاه المجتمع واهتمامها في المقابل بتنمية فرق الجهاد الديني بدلا عن تنمية الفرق المسرحية والفنية ثانيا توقف الابتعاث لدراسة الفنون المسرحية وعدم تشجيع المواهب المسرحية وتطوير مهاراتها في ورش لتنمية المهارات المسرحية وتطويرها وثالثا توقف مهرجانات المسرح اليمني (مهرجان باكثير للمسرح ومهرجانات المسرح المدرسي) ورابعا عدم الاهتمام ببناء كليات للفنون الجميلة؛ وفي اليمن كلها عندنا كلية واحدة فقط في الحديدة وهي افقر الكليات وحتى معهد جميل غانم في عدن أصبح مجرد خرابة وكل هذه الأسباب مجتمعه هي سبب تعثر المسرح في اليمن من وجهة نظري.
* إلى أي مدى برأيك عمل غياب العمران الخاص بالمسرح إلى تردي وغياب المسرح في اليمن؟
– إلى حد كبير طبعا.. لقد مر زمن طويل من دون بناء صالات عروض مسرحية وكل خشبات المسارح الموجودة في البلد على قلتها ليست مخصصة للأنشطة أو للعروض المسرحية فقط او مجهزة بورشة سينوجرافيا وديكور وملابس وصوتيات ولوازم نجاح أي عرض مسرحي. ولكن تلقاها قاعات مفتوحة لكل شيء وتقام فيها كل المناسبات من عيد الام إلى عيد الثورة إلى عيد العمال إلى مهرجان اليتيم والمسرح مجرد فقرة من جيز الفقرات.
*ما هي أفضل مرحلة زمنية ثقافية وسياسية انتعش فيها المسرح اليمني برأيك ولماذا؟
– بدأت الفنون تنتعش بشكل عام من تلك اللحظة التي دعم فيها صندوق التنمية الكويتي بناء كل المراكز الثقافية في شمال اليمن سابقا والتي تشاهدها الان وهي مراكز ثقافية معدة جيدا بكل احتياجات ولوازم المسرح من إضاءة وورش ديكور وكواليس للمثليين وغرفة ملابس وصوتيات. وكانت فترة الثمانينيات طبعا أفضل المراحل لانتعاش المسرح والسبب في ذلك يعود اولا لوجود الوزير الفنان وثانيا يعود السبب لطبيعة التنافس الفني الكان حاصل بين شطري الوطن. في الجنوب كانوا يرسلوا طلبة لدراسة المسرح والفنون في دول المنظومة الاشتراكية وفي الشمال كانوا يرسلوا طلبة لدراسة الفنون المسرحية في الكويت وفي العراق. وكان على رأس النظامين السابقين في الجمهورية العربية اليمنية وفي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وزراء ثقافة عندهم هم ثقافي ورؤية لتطوير مناشطها. وفي تلك المرحلة نفسها استقدمت وزارة الثقافة والإعلام أيام الوزير حسين العرشي عددا من اساطين الفن المسرحي لإنشاء فرق المسرح الوطني في صنعاء وتعز ؛ فكان المخرج المسرحي الكبير حسين الأسمر يؤسس ويطور وينمي ويرعى فرقة المسرح الوطني في صنعاء والفنان المسرحي الكبير إميل جرجس يؤسس ويطرو ويرعى وينمي فرقة المسرح الوطني في تعز ؛ ومثلها في الحديدة أيضا وفي تلك الفترة نفسها كانت الدراما في صنعاء تنشط وفق أسس علمية وفنية متطورة بالاستعانة والاستفادة من كبار النجوم العرب امثال الفنان كرم مطاوع والفنانة أمينة رزق وانتجت في تلك الفترة مسلسلات يمنية مشتركة مثل “وريقة الحناء” ومسلسل” وضاح اليمن” والمتتبع لحركة نشاط المسرح في تلك الفترة ؛ والفنون بشكل عام؛ سيجد الكويت البلد العربي الشقيق هو وراء كل ذلك النشاط والتطور.
*إلى أي مدى أدى غياب المسرح المدرسي وكذلك المؤسسات والمعاهد المتخصصة في الفنون المسرحية إلى انحسار المسرح في اليمن، ما هي الأسباب التي تقف وراء هذا الغياب؟
– إثر ذلك إلى حد كبير طبعا بما يكفي لأن يترك المسرح لينمو من تلقاء نفسه مثل عشب الصحراء تماما بلا أي اهتمام من الدولة وبلا اي تنمية لمواهبه بالتزامن مع حذف حصص التربية الفنية من المنهج المدرسي مقابل تنمية فرق الجهاد الإسلامي والنشيد الجهادي والنتيجة واضحة اليوم.
*في فترة السبعينات كان للمسرح في عدن شأن، فهل كان وجود وزير الثقافة عبدالله باذيب، هو السبب في ذلك الازدهار أم أن هناك أسباب أخرى ساعدت في ذلك، ولماذا لم يتجه وزراء الثقافة اللاحقون اتجاه الوزير باذيب لانعاش المسرح أم أن هناك أيديولوجيات اجتماعية وبروتوكولات سياسية تمنعهم من ذلك؟
– ما اعرفه جيدا أن المسرح من أكثر وسائل التعبير تضررا في غياب الحرية وقد تكون مساحة الحرية في السبعينيات بالنسبة للجنوب اكثر مما لحقها وقد يكون السبب راجع لوجود الوزير الفنان والأديب امثال الراحل باذيب.
*المسرح في اليمن اجتهاد شخصي، هل تتفق معي على هذا القول؟
– هو كذلك بالفعل ؛ ناشطوا المسرح ومحبيه يبذلون في سبيله جهودا فردية مضنية بلا أي حوافز أو تشجيع وبلا اي اهتمام واي مسرح نشط الان وذائع الصيت فليس هناك وراءه وزارة مهتمة مثلا أو دولة معنية بتشجيع المسرح وانما هي من ساساها إلى رأسها جهود فردية لمحبين مخلصين لفنهم العظيم..
*كلمة أخيرة تود أن تقولها عن فن المسرح؟
-خلاصة القول ما فيش شيء في حياتي الشخصية كلها طور شخصيتي وفجر طاقاتي وآثار خيالي وبسط كلامي وأفكاري وصقل مواهبي وأضاء عقلي وجعلني هذا الإنسان اللي تستضيفه في هذا الحوار، أكثر من المسرح، ابو الفنون ومعبد البشرية الأول.
وأحيي في الختام كل فناني المسرح اليمني الذين ينحتون في الصخر من أجل إسعاد جمهور الفرجة وأتمنى أن يرزق الله الثقافة اليمنية بوزير فنان يعرف أهمية المسرح ويبدأ اولا بإعادة مهرجان باكثير للمسرح اليمني وكذا بإعادة مهرجانات المسرح المدرسي كأهم خطوتين لتعافي أبو الفنون في اليمن.
واحييك انت ايضا أخي هايل على كل ما تقوم به من أجل المسرح في مرحلة يكاد أن يندثر فيها هذا الفن العظيم وبما يبدو أن القابض على المسرح في هذه الأيام كالقابض على الجمر.